الدار صوّحتْ والأيام جارتْ الدهابة فلّسوا والبضائع بارتْ اللواري إتقرشت والهموم أدانتْ بشوف الديفه عليْ سيد أب قلايد مالتْ أولاً أقول إن هذه الأبيات من قديم ما أحفظ من الدوبيت وقد قيلت أصلاً في إخوتنا «القرّاده» وهم الرجال الذين كانوا يذهبون لإنتاج الصمغ في منطقة أبو قرود في مديرية النيل الأزرق سابقاً عندما كان الصمغ العربي يمثل مصدراً للدخل لا يقل جاذبية وفائدة عن التعدين الأهلي أو العشوائي الآن! وبما أن الوضع قد تغير وكاد الصمغ العربي يخرج من دائرة اهتمام الدوائر الشعبية والرسمية ولم تعد له أهمية تذكر اقتضت الضرورة الفنية أن ندخل بعض التحريف غير المخل على هذه الأبيات تماشياً مع الوضع القائم لأن «الدهابة طالعين في الكفر» هذه الأيام، وقد أصبحوا يشكلون فئة لا يستهان بها من الناس واستطيع القول بأنهم قد خطفوا الأضواء من المغتربين الذين تراجع وضعهم إلى خانة لا يحسدون عليها في سلم النظرة الاجتماعية والاقتصادية، فلم يعد يغني لهم أحد وإذا عادوا من الاغتراب لا يأبه لهم بالمرة، مثلما هو الوضع مع «الدهابة» الذين صارت تشرئب لهم أعناق أمهات البنات وتقدم لهم الدعوات ويوسع لهم في المجالس ويسمع لقولهم في سوق العربات المستعملة ومحلات الأثاث وغيرها من المحلات التي تبيع الأشياء الاستهلاكية الأخرى ومنها مصنوعات جلود النمر وما في شاكلها من أشياء للزينة والتفاخر، وهم في واقع الأمر يستحقون ذلك بجدارة فهم الذين دعموا الأسر ووفروا قدراً لا يُستهان به من المعدن الأصفر النفيس، وبالتالي رفدوا خزينة الدولة التي لم تقدم لهم أية خدمات لا صحية ولا حتى أمنية في بعض المواقع النائية أو تحفظ لهم حقوقاً تذكر، مع أنه لا أحد ينكر الدور العظيم الذي قام به هؤلاء الرجال الذين فقد بعضهم روحه وتعليمه وصحته جراء استخدام بعض المواد الكيماوية القاتلة وانهارت عليهم الحفر وأصبحت قبوراً لهم وهم في ريعان شبابهم، في سبيل الحصول على جرامات من الذهب لا تسمن ولا تغني من جوع أو تخرج شخصاً من دائرة الفقر والعوز والحمد لله على كل حال. ومن أجل تفادي قضايا الملكية الفكرية، مع أنني لا أعلم شاعر الأبيات المذكورة أعلاه، وحفظاً لحقوقه الأدبية، فإنني أتقدم له بالاعتذار لما طرأ من تعديل وتبديل على هذا النص الذي يحمل كثيراً من الدلالات الاقتصادية التي أرجو أن أخاطب بها مولانا أحمد هارون والي ولاية شمال كردفان وراعي مشروع نهضتها التي آمل أن تعود بالنفع والفائدة على أهل هذه الولاية الذين ظلوا ينتظرون من يأخذ بأياديهم نحو التقدم والتنمية ولا أقول الرفاهية فهذا مطلب دونه بيد دونها بيد. وعموماً، ومما هو معلوم من الواقع بالضرورة، فإن ولايتك يا مولانا هارون هي الولاية الوحيدة التي تتمتع بالاستقرار والأمن من بين ولايات الغرب قاطبة، وهذه قيمة مضافة يجب أن نستفيد منها جميعاً، وبما أن قطار النهضة قد انطلق منذ وقت ليس بالقصير فلا بد من وقفة نجرد فيها الحساب «والحساب ولد» حتى نعلم ما لنا وما علينا، بكل شفافية ووضوح في الطرح والرؤية. والكل يعلم أن ثمة مشروعات عملاقة هي الآن تحت التشييد ولا ينكرها إلا من ينكر ضوء الشمس أو من يكابر ويبخس الناس أشياءهم وانجازاتهم، ولكننا نلاحظ أن معظم هذه المشروعات ذات طابع خدمي، وهذا وإن كان مطلوباً إلا أنه ليس كافياً لتحقيق شروط النهضة وأهدافها بعيدة أو قصيرة المدى، ذلك لأننا نلاحظ عدم تركيز على المشروعات الإنتاجية، باستثناء إشارات في وثيقة النهضة لمشروع أبو حبل وتحسين التقاوي لزيادة إنتاج «المخمس»، ونريد أن يكون المزارع البسيط والراعي في المناطق النائية هو المستهدف. ذلك لأن معظم المشروعات التي بدأ تنفيذها ترتبط بالمدن والمناطق الحضرية دون الأرياف ومناطق الإنتاج، ولذلك أردنا أن نلفت الأنظار قبل فوات الأوان! وقديماً كانت الأبيض توصف بأنها أكبر سوق للصمغ العربي في العالم أجمع، ولكنها لم تعد كذلك الآن، وعلاوة على هذا، فقدت الولاية ما كانت تحصل عليه من عائدات الفول السوداني والضأن وحب البطيخ بعد قيام ولاية غرب كردفان التي كانت منتجاتها تمثل رافداً مهماً لميزانية الولاية! وهذا يتطلب أن يكون الاهتمام بالزراعة والثروة الحيوانية في مقدمة أولويات المسؤولين عن التنمية في شمال كردفان! الشاهد من الأبيات السابقة أن الشاعر قد قدم شرحاً وافياً لما تصل إليه أحوال أهل هذه الولاية في مثل هذا الوقت من كل سنة أعني «الرشاش» أو نهاية الصيف وقبل حلول الخريف، وهي فترة ييبس فيها الفرع ويجف الضرع وتضيق بالناس الدنيا على ما رحبت، ولكن هنالك فئة واحدة لا تتأثر بذلك كله هم «أسياد أب قلايد» أي أصحاب الإبل خصوصاً والثروة الحيوانية عموماً، وهذه إشارة ذات دلالة كبرى يجب وضعها في الحسبان عند التعامل مع ملف التنمية والنهضة في شمال كردفان. وبما أن مولانا هارون يتولى هذا التوجه بنفسه، ويسعى بكل ما أوتي من قوة وحسن إدارة لإنجاح هذا المشروع غير المسبوق، نأمل منه أن يلتفت للإشارات الواردة في هذه الأبيات المعبرة والبسيطة التي لا تحتاج لكثير شرح أو تحليل، ولذلك نقول له بكل صراحة يجب أن تضع الزراعة والإنتاج الحيواني نصب عينيك، خاصة أن بنك السودان المركزي قد وجه البنوك بعدم تقديم التمويل إلى المشروعات العقارية وتوجيه الموارد المتاحة لدعم مشروعات الإنتاج زراعياً كان أو حيوانياً أو صناعياً ولا سبيل للخروج من دائرة الحاجة والفقر وتحقيق الأمن الغذائي إلا بالاستفادة من البنوك العاملة في الولاية وحثها على الدخول في شراكات ذكية وجادة ومراقبة مع صغار المنتجين وكبارهم على حد سواء، بعيداً عن الأساليب الربوية التي كانت تنتهجها بعض البنوك وتدخل المزارعين السجون بنهاية كل موسم. وحتى «لا تتقرش اللواري» وتتدانى الهموم على أصحباها والمستهلكين الذين تجلب لهم السلع، نذكّر مولانا هارون بالوعد الذي قطعه طوعاً على نفسه بأن يبدأ العمل في طريق أم درمان جبرة بارا، هذا الشريان الذي لا بد منه للنهضة، في الموعد المحدد سلفاً وهو الأول من شهر يوليو المقبل أي بعد أقل من شهر من الآن، والوالي لا يخلف وعداً!!