لم أتردد لحظة في قبول الدعوة التي قدمت لي من ولاية غرب كردفان لتغطية الصلح بين قبيلتي الرزيقات والمعاليا بمدينة الفولة، فمنذ سنوات وأنا أرسم صورة لمدن غرب كردفان حتى قبل ان تعود بمرسوم جمهوري ولاية قائمة بذاتها بعد ان فرضت مقتضيات مرحلة مابعد نيفاشا انقسام مدن الولاية بين ولايتي شمال وجنوب كردفان، ورغم طول الطريق ومشقة السفر لمدينة الفولة الا انني لم أشعر بأرق الرحلة خاصة وان الاجواء كانت خريفية «بعد الخروج من الخرطوم» الى جانب ان الرفقة الرائعة للزملاء إبراهيم عربي من الزميلة «الصحافة» وعيسى جديد من «آخر لحظة» وأنور بابكر محمد من «وكالة السودان للأنباء» قصرت الكثير من المسافات رغم استياء عيسى في كثير من الاحيان لانقطاع شبكة الانترنت في بعض المناطق، ما يجعله ينقطع عن مواصلة اصدقائه في الفيسبوك والواتساب، لم نستطع الوصول الى مدينة الفولة في نفس يوم تحركنا الاثنين الماضي فآثرنا ان نستنشق القليل من نسيم عروس الرمال الليلي وقضينا تلك الليلة بمدينة الابيض، وقبل بزوغ فجر الثلاثاء بقليل تحركنا من الابيض متوجهين الى مدينة الفولة، فأدينا صلاة الفجر عند معبر الدبيبات وهناك صادفنا بعض الاهل قادمين من مدينة نيالا «براً» عبر بص نيسان اكل الدهر عليه وشرب وتجاذبنا اطراف الحديث مع احد ركاب ذلك البص الذي بدا عليه الارهاق، وسألناه عن الفترة التي اخذوها في الطريق من نيالا وحتى الدبيبات، فقال لنا انهم تحركوا مع فجر الاحد ليصلوا فجر الثلاثاء الى محلية الدبيبات، وقلنا له هل كان الطريق آمناً طيلة رحلتكم فأكد لنا ذلك، واضاف انهم يخرجون من نيالا خلف طوف للتأمين حتى يصلوا مشارف كردفان وبعدها لا يحتاجون لذلك الطوف، فكرت حينها في طريق الانقاذ الغربي والكثير من الاموال التى يدفعها اهلنا في دارفور لخطوط الطيران والكثير من القلق الذي يصاحب ركاب البر حتى الوصول الى كردفان ومنها الخرطوم، فكرت في العوائد الاقتصادية الضخمة التي يمكن ان تجنيها دارفور واهلها ان اكتمل طريق الانقاذ البري واصبح السير فيه آمناً، وفكرت في منتجات جبل مرة وغيرها من خيرات دارفور التي يحرم منها الكثير من اهل الخرطوم وغيرها من الولايات لتكلفتها الباهظة، وانتهى تفكيرنا بازاحة احد العساكر للحاجز ليسمح لنا بالمرور للفولة، التي كلما اقتربنا منها ازداد شوقنا لها وانا ازورها للمرة الاولى في حياتي. الفولة وقبائلها بدت الفولة في ذلك الصباح وكأنها عروس في ليلة زفافها، الشوارع منظمة وشبه خالية من السيارات فالجميع في اكاديمية العلوم الصحية بالمدينة يرقصون ويطربون وبعضهم مشغولون بالاعداد لزيارة نائب رئيس الجمهورية للمشاركة في الجلسة الاجرائية للصلح بين الرزيقات والمعاليا، وصلنا الى المكان المخصص للاحتفال فوجدنا جميع قبائل غرب كردفان داخل الاكاديمية، كل القبائل بتراثها الرائع وفنونه الممتعة والنقارة والمردوم و....و......وكل ابداعات كردفان كانت حاضرة في تلك الخيم، تركت الزملاء بالخارج فهم يعرفون كردفان لانهم من مواطنيها، وعند اول خيمة تعرفت على الدرنقل وهو سرير العريس وجميع مستلزمات تلك الليلة عند اهلنا المسيرية، وبالخارج البُخسة والمحراكة وغيرهم من التراث الرائع. استوقفتني كلمات الحكامة التي بدأتها: انا تعبانه شديدة من اهلي بقارة مسيرية حمرة وزرقاء وختمتها بضرورة اعمار الديار ونبذ القبلية، وفي بيت الحمر تعرفت على العوائد وهي الحكم لدى العريس الجديد في الحمر، وهي اموال تدفع قبل ان يدخل العريس على عروسه، وفي احد منازل المسيرة أيضاً نادت الحكامة بضرورة نبذ القبلية وترك السلاح والتوجه للتنمية، وطالبت الادارة الاهلية تكون معهم لحل هذه المشاكل بعبارة رائعة: الادارة الاهلية كوني معانا لنزع السلاح ونسيب الخسارة. ظهور عقبات بعد ساعات مع إيقاعات المردوم والنقارة وصل الى مسامعنا عقبات تحول دون اجراء الجلسة الاجرائية وتوجه نائب الرئيس الى مدينة الدلنج لاقامة لقاء جماهيري بعد عدد من الافتتاحات في جنوب كردفان، بدأنا في تقصي الحقائق خاصة وان السودان من اكثر الدول التي تتحور فيه الحقائق وتكثر به الشائعات، فعلمنا ان هناك بعض الشروط للرزيقات لم تنفذ وبدأت حركة مكوكية من قبل واليي غرب كردفان وشرق دارفور والاجاويد والقيادات الاهلية لاحتواء الموقف، الذي يبدو أنه يسير ببطء حتى الوصول الى اتفاق نهائي لا رجعة بعده للحرب بين القبيلتين، والي غرب كردفان اللواء ركن احمد خميس قال لنا كل ما حدث هو تأخير الجلسة الاجرائية لبعض الخلافات الطفيفة التي بمقدرونا مع الاجاويد تجاوزها، واضاف خميس اتفاقيات الصلح دوماً تأخذ وقتاً كبيراً للوصول الى حل نهائي ولا يمكن الوصول الى اتفاق نهائي خلال يوم او يومين، واشار في حديثه لنا ان ولاية غرب كردفان تعتبر من الولايات الجديدة القديمة ولها بعض الخصوصيات، وهي ولاية ثروة ومحورية وبلغة الجيش بنقول حيوية ممنوع منها الاقتراب، موضحاً العديد من المؤثرات لما يدور في جنول السودان وشرق دارفور باعتبارهما محادين للولاية. وقال لا زلنا نعالج في الكثير من القضايا حتى لا يزيد تأثيرها السلبي على غرب كردفان، وأكد خميس سعيهم لايقاف الاقتتال في شرق دارفور بين القبيلتين، باعتباره الظهر الآمن لهم مشيراً الي مشاكل المسيرية في الدبب بين اولاد عمران والزيوت، وكذلك الحمر والمعاليا وقال لكن رغم ذلك فضلنا حل مشكلة الرزيقات والمعاليا، واشار خميس الى ان هذه المشاكل القبلية تتم بتخطيط وتدبير محكم من جهات لا تريد الاستقرار والسلام في المنطقة. التفاؤل يسود الأجواء فيما أكدرئيس لجنة التصالحات الفريق محمد جابر برام، أن الأجواء النفسية جيدة بين الطرفين وهما يشعران بفرح بين اهلهم، والنقاش موضوعي ولا نتعجل الاشياء. وقال إن الكل يبحث عن حل والنجاح دوماً لا يكتب الا بعد مشقة وجهد، واضاف ان ولاية غرب كردفان حينما توسطت لحل النزاع كانت تعلم انها تحتاج لجهد كبير، وقال ان الولاية منذ فترة طويلة وهي ترسل الوفود من اجل اكمال هذا الصلح بمشاركة قبائل الولاية من المسيرية والنوبة والداجو وأسهموا كثيراً في تهدئة النزاع بين الطرفين حتى تم توقيع وثيقة الطويشة لوقف العدائيات، واشار برام الى ان الولاية بذلت جهوداً كبيرة حتى وافقت القبيلتان على الحضور لمدينة الفولة والجلوس للوصول إلى حل جذري لهذه العدائيات، وقال الآن كل الوفود حضرت لانعقاد المؤتمر ولا يمكن الاستعجال في انطلاق اعماله، وقال كلما أعطي وقت للجلوس بين الاطرف سيكون الحل جذرياً وأكد ان كل الوفود جاءت للفولة بنية صافية للوصول الى السلام، موضحاً أن العقبات البسيطة التي تظهر لن توقف عملية الصلح الذي سيكون نهائياً وفيه الخير للقبيلتين وللسودان، واتفق ناظر عموم المسيرية مختار بابو مع من سبقوه في الحديث وقال، إن المشكلة بين القبيلتين قديمة جداً ولذا تحتاج للكثير من الحكمة والتأني حتى تحل جذرياً. وقال الناظر انه يجب على القبيلتين تجاوز الخلافات، مشيراً الى ان هذا النزاع اثر كثيراً على ولايتي شرق دارفور وغرب كردفان. موضحاً انهم سيعملون خلال الايام المقبلة على حل جميع الخلافات في المنطقة، ان كان بين الحمر والمعاليا وكذلك خلاف المسيرية بين اولاد عمران والزياتية، مؤكداً قرب الوصول الى اتفاق يرضي جميع الاطراف من اجل اعمار تلك الديار بالتنمية التي يعود نفعها على المواطن.