لعل المغزى من مؤتمر الإعلام الذي تنعقد ورشته هذه الأيام هو صنع فرصة لإعادة عرض قضية الإعلام، الذي صار أضعف حلقات الدولة، برغم أنه يشكل أحد أقوى عناصر الدولة، أياً كانت الدولة، خاصة الدولة التي تتعدد فيها الثقافات أو تتنوع لظروف تباين هذه المكونات أو لظروف بيئات الدولة، كما في السودان الذي يعد في أمس الحاجة لإعلام قوي يخترق كثيراً من حواجز الصد التي تقف أمام أهداف الدولة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، خاصة وأن الظرف الذي يعيشه السودان ظرف استثنائي لا يوجد له مثيل، واستهداف معقد من الناحية الدينية وكذلك الاقتصادية، فالسودان اليوم لا يخفى أنه يقود حركة الإسلام السياسي، الأمر الذي وضعه أمام عدو تقليدي وهو مجابهة الغرب في ظل خوائه الديني بسبب الاعتقاد في المادية الزائدة. ومن جانب آخر فالسودان نسبة للموقع الإستراتيجي وتوفر موارد باطن الأرض والموارد الاقتصادية وظروف توفر الماء على مستوى الري المطري ومصادر المياه من خلال روافد النيل والأرض الزراعية الخصبة، هذه الميزات ترشحه كدولة لقيادة إفريقيا نسبة لتوفر مطلوبات العالم الحقيقية في هذا الظرف، والضرورية منها إذا وضع في الاعتبار شبح حروب المياه القادمة، والمجاعات التي ضربت دول الجوار ومعظم دول الإقليم، فإدارة هذا الكم الهائل من المشكلات الداخلية، ذات العلاقة بالمستوى الدولي والمحيط الإقليمي، والمهددات الخارجية التي تستهدف السودان، فإن هذا القدر الكبير من المسؤولية يتطلب دوراً فاعلاً للإعلام ليسهم مع النشاط السياسي والدبلوماسي والأمن القومي للدولة، وتتكامل موجهات هذه الرسالة حتى يدعم كل جانب من جوانب هذا العمل الوطني الآخر. وهنا تأتي ضرورة الإعلام الفاعل الذي يشكل السند الحقيقي للدولة في مسؤوليتها تجاه القضايا المصيرية، وإذا أخذنا أدوار الإعلام الإستراتيجي في بناء الوحدة والهوية في السودان خاصة وأنه ما زالت الحروب تدور في البلاد في الغرب والشرق، وأصبح شبح التشظي والانقسام في المجتمع السوداني الأمر الغالب، وهذا واضح من المكون القبلي الذي يسود السودان، والنعرات التي تقودها الجماعات التي حملت السلاح، وتأثير التدخل الأجنبي الصارخ في تفاصيل الشؤون الداخلية، وإملاء سياساته باعتبار أنها أجندة أساسية في خضم الصراعات الدائرة في السودان، حتى ضعف الانتماء الوطني، وصارت أطراف الوطن في حاجة ماسة لرعاية الدولة المركزية، وإذا كانت هناك حاجة ماسة للإعلام فإن الإعلام الولائي هو الأهم، باعتبار أنه الإعلام الأساسي الذي يشكل رؤية المركز تجاه القضايا المصيرية ويشكل خط الدفاع الأساسي والتوعية بالمطلوب الوطني على مستوى حيز أكبر. خاصة وأن الإعلام على مستوى المركز إعلام قاصر لا يخاطب إلا المركز، سواء كان هذا الإعلام المسموع منه أو المشاهد أو المقروء، واختزل نفسه في هذه الحال على حساب المسؤولية الوطنية، وذلك لعدة أسباب منها سيطرة رأس المال وهو عامل مركزي ومن ثم سيطرة المركزي الفكري والصحفي والبشري، وساد المزاج المصحوب برؤية صاحب المؤسسة على حساب المسؤوليات الوطنية التي ينبغي أن يقوم بها الإعلام، ثم غياب السياسات الإعلامية التي تشكل أخطر مهدد للأمن القومي، حتى في المنابر العلمية، لا تجد السياسات الإعلامية تطرح بالشكل العلمي الذي يصطحب معه الثقافات السودانية وتنوعها، فالذين يقومون على أمر أجهزة الاتصال الجماهيري في البلاد العامة أو الخاصة لا يركزون كثيراً في مضمون الخطاب الذي لم تحدد اتجاهه سياسات واضحة وموحدة، بل تغلب المزاجية عليه من قبل مسؤول الجهاز الجماهيري، أو التطور التقني على حساب المادة التي تقدم، ونرى في ورش مؤتمر الإعلام، غياب خصوصية الإعلام الولائي، المتمثلة في المادة الإعلامية التي تخدم قضية الهوية. وذهب أغلب المختصين إلى سلبية القنوات الخاصة، ودور الإعلام الولائي للضعف، في الوقت الذي أصبحت فيه ثقافات دول الجوار تغزو أطراف السودان، حيث تعمقت السيرة الإثيوبية حتى الروصيرص، أما غرب السودان فنجد أن القناة التشادية هي الأكثر مشاهدة. هذا عطفاً على القناة الإريترية الموجهة لشرق السودان، ثم تأثير الإعلام المصري على المجتمع السوداني، وكذلك القناة الجنوبية التي تعد العدة الآن لقيامها. فإن وضع الإعلام السوداني الضعيف وغيابه التام عن المستوى الولائي، جعل ثقافات دول الجوار تتقدم على حساب الإعلام السوداني القومي، خاصة وأن سياسات الإعلام في دول الجوار هذه موامرة معروف لم يكن صدفة، بل عمل ودروس لإيجاد فرص إعلامية في داخل السودان على حساب المكون السوداني، الذي تجد دول الجوار الحافز الذي يشجعها على اغتيال الإعلام الوطني لحسابها، من خلال مناطق التداخل والتصاهر لدى شعوب المنطقة. والأمر الواضح في تدني الإعلام السوداني، وغياب الرؤية المركزية لهذا الإعلام يقتصر في قصور سياسة الدولة الإعلامية، تجاه مقومات الإعلام الناجح، فليست هناك أولوية لصرف المال، أو شكل من أشكال المراقبة، فالمسؤول في الجهاز الجماهيري لا يحكمه أي نوع من الرقابة ولم تكن هناك معايير لاختيار هذا المسؤول، أو توصيف مهمته ودور الجهاز أو المؤسسة الإعلامية المعنية، ولغياب السياسات الإعلامية والتشريع المضطرب أخل بأمر التأسيس الخاص بالمؤسسة الإعلامية، التي في كثير من الأحيان تجد أنها أقرب إلى إقطاعية من كونها مؤسسة تحكمها معايير الدولة، ولم تسيرها قوانين ولوائح تخدم المصلحة العامة، بل مرتبطة بشخص المسؤول ومزاجه الخاص، فيما يراه أو يراه معاونون له ليست لهم علاقة بالإعلام، فيختل وضع المؤسسة الداخلي، ويضطرب أداء الجهاز الجماهيري الذي لا يعبر إلا عن وجهة المسؤول، والكيفية التي يبقى بها على حساب الكفاءة والمسؤولية الوطنية، وبالتالي مؤتمر الإعلام فرصة حقيقية لعرض قضية الإعلام عامة والإعلام الولائي على وجه الخصوص في الظرف الاستثنائي الذي يعيشه السودان، وبالتالي ضرورة مراجعة أسس إدارة الجهاز الجماهيري، الذي يجعل التغيير ضرورة في الإعلام السوداني المستقبلي.