لدى مخاطبته اجتماع مجلس شورى المؤتمر الوطني الأسبوع الفائت، قطع الرئيس البشير الطريق على كل التكهنات بتأجيل موعد الانتخابات، وأكد على قيامها في موعدها المفروض، ثم جاءت إفادات مساعده بروفيسور غندور في البرلمان لتعزز ذات الأقوال. . إذن لماذا كان بعض نافذي المؤتمر الوطني وقياداته يطلقون التصريح إثر الآخر بإمكانية تأجيل الانتخابات، إفساحاً للمجال أمام مبادرة الحوار الوطني للمضي قدماً في إجراءاتها بغية الوصول إلى اتفاقيات بين المؤتمر الوطني والقوى السياسية المعارضة في مختلف القضايا الوطنية؟ ألا يعزز ذلك ما شاع عن وجود وجهات نظر متبادلة بشأن الحوار الوطني في أروقة الحزب الحاكم؟ تسلسل الأحداث يكشف عن خطوات غير متسقة تمضي في اتجاه واحد، فالرئيس يطلق مبادرة الحوار الوطني ويستبق بدء الحوار بجملة من الإجراءات التمهيدية المحفزة، ثم تتخذ الحكومة إجراءات أخرى في اتجاه معاكس تماما، وأعني هنا الاعتقالات وإغلاق بعض الصحف الأمر الذي عده كثير من المراقبين بمثابة وضع العصا بين قدمي الحوار. وأخيرا يجيء قرار قيام الانتخابات في موعدها بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على الحوار الوطني، بحسب كثير من الآراء والتحليلات السياسية المنشورة التي تكاد تصل إلى حالة الإجماع . . فهل الأمر بهذا السوء المطلق حقا؟ سنحاول النظر للمسألة من زاوية أخرى؟ مبتعدين تماماً عن ظاهرة الخطاب القطعي في السياسة السودانية !! ونسأل إن كان قرار قيام الانتخابات في موعدها هو مجرد كرت ضغط على القوى السياسية الرافضة للحوار لحملها بوسائل سياسية مشروعة إلى ساحاته؟ . . أم كان ذلك الأمر مجرد كرت تلقيه الإنقاذ وهي في حالة يأس من الحوار وإمكانية نجاحه، أو حتى تلقيه وهي في حالة تجاوز كامل لمقترح الحوار نفسه؟ لا بد أن نقر أن تأجيل الانتخابات كان مطلبا رئيساً ًمن مطالب المعارضة عند طرح مبادرة الحوار، باعتبار أنها أي الإنتخابات، وما يتعلق بها من مسائل دستورية وتنظيمية هي نفسها إحدى مسائل الحوار الوطني وأجنداته كما أن إجراء الانتخابات في موعدها المضروب أي قبل خواتيم الحوار ومعرفة مآلاته، سوف يفرز واقعاً دستوريا وسياسيا يصعب تجاوزه أو تعديله من بعد ذلك دون دفع أكلاف سياسية عالية! سؤالان متصلان أشد الاتصال يفرضان نفسيهما: 1 / يقيناً ستكون قسمة السلطة هي أحد أهم أجندات أي حوار يتم بين المعارضة والإنقاذ. باعتبار أنها إحدى معضلات العلاقة بينهما. فكيف يمكن إخضاع مسألة كهذه للحوار وقد حسم المؤتمر الوطني أمرها بإجراء الانتخابات دون تأخير . 2 / ثم ماذا لو أجريت الانتخابات بهذه الكيفية بينما استمر الحوار بطريقة ما وأفضى إلى اتفاقيات بين المؤتمر الوطني والمعارضة تتناقض تماماً ونتيجة تلك الانتخابات؟ الحكومة من جانبها ترى أن الانتخابات استحقاق دستوري لا بد من أدائه وأنها أي الانتخابات يجب ان تسير في طريقها الدستوري حتى النهاية . . وعند هذا الحد يجب علينا أن نقف مخلصين لنناقش الحكومة ونفاوضها في طرحها هذا موضحين لها الحقيقة عارية كما نراها. ما ساقته الحكومة عن الانتخابات كاستحقاق دستوري هو قول صحيح وعلى كل الوجوه لكن النص الدستوري الذي يحدد هذا الاستحقاق هو نفسه جماع لإرادة الأمة بكل تشكيلاتها ووجوده كنص إنما هو تجسيد لهذه الإرادة كما أن تفعيله كنص هو مناط هذه الإرادة، بغض النظر عن الجهة المفوضة بتفعيله ومن فضول القول وحواشيه أن نقرر هنا أنه لا يمكن لنص دستوري أن يعطل إرادة شعبية أوجدته أصلا !! من هذه المقدمة نرى أنه من المفيد أن نفرق بين الاستحقاق الدستوري كحق للأمة لا يجب خرمه أو الانتقاص منه وبين الإجراءات الإدارية المتعلقة بإنفاذه مثل القوانين المنظمة للانتخابات التي تحدد تقسيم الدوائر وطريقة الاقتراع.. إلخ. ومواعيد الانتخابات , بظني هي محض إجراء إداري لا علاقة له بجوهر الاستحقاق الدستوري وهو أي الإجراء الإداري، عرضة للتغيير والتبديل وفقاً للظروف المحيطة به لحظة اتخاذه , ومجرد ظروف مناخية أو أمنية أو مالية قد تكون كافية لاتخاذ قرار بتعديله وربما تبديله تماماً وشاهدنا في هذا هو تلك التعديلات التي تجري الآن على قانون الانتخابات داخل البرلمان!! فإذا كانت الحكومة إستنادا للدستور قادرة على تعديل أمور جوهرية في قانون الانتخابات مثل تقسيم الدوائر وطرق الاقتراع عليه يصبح من اليسير عليها تعديل أمر ثانوي مثل تاريخ قيام الانتخابات، متى ما نهض سبب وجيه أو قامت مصلحة طارئة لمثل هذا التعديل!! واقع الحال الآن يقول إن الحوار الوطني أصبح هو الضرورة الوطنية الأولى بلا منازع وربما نزعم أن الإنقاذ لم تستطع من قبل طرح أي مشروع سياسي حظى بإجماع جماهيري واسع مثل مبادرة الحوار الوطني، وإذا سألت الإنقاذ نفسها: ما هو المشروع السياسي الذي تستطيع طرحه الآن وينال إجماعا وطنيا؟ لاشيء إطلاقاً، ولأن الإنقاذ كان لها سبق إطلاق مبادرة الحوار الوطني فمن الأولى أن تقوم هي بنفسها برعايتها وحشد كل القوى السياسية إن أمكن خلفها بدلاً من اصطناع عراقيل مختلفة تطفئ بها بارقة أمل أوقدتها هي بنفسها. . لعل إسراع الحكومة بإصدار تعديلات على قانون الانتخابات يهدف بصورة أساسية إلى سحب البساط من تحت أقدام المعارضة واحتواء جزء من احتجاجاتها المتوقعة على قرار قيام الانتخابات في مواعيدها بحيث تستجيب هذه التعديلات لبعض مطالب المعارضة واستيعاب طموحاتها المتعلقة بتوسيع قاعدة المشاركة في السلطة على أسس ديموقراطية لتكون مشاركة فعالة ولها ثقل مقدر. ربما لا تلامس هذه التعديلات سقف مطالب وطموحات المعارضة لكنها قطعاً محاولة من الإنقاذ لامتصاص قدر كبير من اعتراضات الرأي العام المساند للحوار على قيام الانتخابات في موعدها، وبالتالي شل قدرة الأحزاب المعارضة على حشد معارضات شعبية واسعة.