الرئيس جعفر محمد محمد نميري، رحمة الله عليه، قائد متفرِّد ومؤهل تأهيلاً عسكرياً راقياً ناله من أرفع كليات القادة والأركان في العالم. الرئيس نميري زعيم متميِّز بين الزعماء بقدرته على اتخاذ القرار بقدر عالٍ من التأثير على مساعديه والتنفيذيين والمرؤوسين، وهو صاحب شخصية لا تقبل المتملُّق الرخيص ولا الضعيف المرتجف ولا المترهِّل الفافنوس.. وإذا جمعت صفات القائد العسكري التي تدرّس في المعاهد والكليات العسكرية وصفات الزعامة الموروثة والمكتسبة لوجدت معظمها في شخصية جعفر نميري.. أقول ذلك ليس مطبِّلاً كما وصفني أحدُهم تجنِّياً ولا لنيل مكسب رخيص في حياة زائلة فانية. ولكنني أقول ذلك في ذكرى رحيله لما شعرتُ به ورأيتُه وسمعتُه ولمستُه من خلال مسيرة عامين كنت مديراً لمكتبه في القصر ومرافقاً له في جميع رحلاته داخلياً وخارجياً انتهت بالرحلة الأخيرة التي كانت نهايتها نهاية رئيس ونهاية حقبة من الحكم في السودان صاحبها كثيرٌ من الجدل. لست بصدد الحديث عن فترة العامين التي قضيتهما مديراً لمكتب الرئيس في رئاسة الجمهورية، ولكن أردت في ذكرى رحيله أن أكتب عن أحداث صاحبت الرحلة الأخيرة للرئيس ومواقف له تؤكد عظمة هذا الرجل وثباته وأمانته وشجاعته، أما تلك فالحديث فيها يطول والأحداث فيها عظام والتآمرات فيها جسام، وهل حان الوقت للحديث عنها؟ الرحلة الأخيرة كانت تلك الرحلة التي نتحدث عنها غير سابقاتها من الرحلات الخارجية التي كانت دائماً تنتهي بإنجازات تُحقَّق ومكاسب للوطن تُنجز وعلاقات مع دول وأمم يتم الوصول إليها، وكانت نهاية تلك الرحلات دائماً ذات أريحية ومشاعر طيبة متبادلة تشعر بها عند مغادرة الرئيس والوفد المرافق له لتلك الجهة، فالمغادر مرتاح للإنجازات التي تحققت وشاكر للمقيمين على حسن الضيافة والاستقبال وحرارة الوداع. والمودع رجال دولة وجالية سعداء بنجاح الزيارة ورضاء الرئيس والوفد المرافق له عنها. اتسمت تلك الرحلة بالتعتيم المنظّم والمرتّب والمنسِّق طرف فيه الإدارة الأمريكية وعناصر في الداخل تنفيذاً لأجندة تم ترتيبها وشارك في التعتيم قادة النظام في جميع مستوياتهم بصورة لم تكن مقصودة ولكن بسبب التقييم الخاطئ للأحداث الجارية في الشارع والتقليل من أخطارها وأبعادها وما يمكن أن تصل إليه، فكانت جميع البرقيات التي تصل للرئيس تؤكد هدوء الأحوال واستتباب الأمن وسيطرة قادة الاتحاد الاشتراكي على الأوضاع، وتنتهي تلك البرقيات بالأمنيات الطيبات للرئيس بفحوصات ناجحة وعدم التعجُّل في الحضور حتى تكتمل تلك الفحوصات ولكنهم لم يدركوا أن فسحة من الوقت لاكتمال الفحوصات هي في الحقيقة والواقع فسحة من الوقت لسقوط النظام على رؤوسهم. كنت أستلم بعضًا من تلك البرقيات والبعض يصل للرئيس مباشرة، وكانت هناك وسيلة اتصال حديثة تربط بين السودان ونيروبي وبين الأخيرة وواشنطن ولكن لم تُستغل الاستغلال الجيِّد لوضع الرئيس في الصورة بما يجري في السودان. وداع حزين كان يوم الخميس من أبريل اليوم الذي غادر فيه الرئيس نميري واشنطن مختلفًا في المشاعر بين المودعين عن سابقه، كان الحزن واضحاً في وجوه المودعين وربما الدموع في العيون محبوسة والصمت كان هو السائد وتلك المشاعر لم تكن محصورة في أسرة الرئيس الموجودة في أمريكا وعلى رأسهم السيد عمر صالح عيسى السفير ولكن تشعر بها لدى كل الحضور وأعضاء السفارة وحتى أعضاء الوفد المرافقين للرئيس، نعم لقد كان الشعور العام أن هناك شيئًا يجري في الشارع السوداني لا يعرف أحد كنهه ولا يدري أحد أبعاده ونتائجه ولكنه كان بين الناس في تلك اللحظات غير مريح. تحركت الطائرة الرئاسية من مطار واشنطن بقيادة الكابتن محمود ساتي وطاقمه بعد منتصف نهار ذلك اليوم، وبعد فترة قصيرة كان الجميع في سبات عميق لم يفق الناس منه إلا بعد أن حطّت الطائرة في مطار نيس بفرنسا بعد منتصف الليل للتزوُّد بالوقود والزاد إن كان للضيافة بالطائرة لها فيه حاجة. كان المطار هادئاً إلا من عربات الخدمات فقد أوقفت الطائرة في مكان قصي منه. لم يتحرك أحد من ركاب الطائرة من مكانه إلا كبير الياورات الذي من مسؤولياته تسديد قيمة الفواتير المطلوبة، وبعض من طاقم الطائرة لمراجعة طائرتهم.. لا أعتقد أن التوقف بمطار نيس زاد على ثلاثة أرباع الساعة، غادرت الطائرة بعده المطار متوجهة إلى القاهرة التي من المتوقع الوصول إليها مع شروق الشمس أو ربما بعد ذلك. كان الجميع في حالة سبات ونوم قد لا يكون عميقاً ونحن نقترب من مطار القاهرة أرى المقدم عبدالسلام صالح يطلبه الكابتن محمود ساتي إلى كبينة القيادة، يعود عبدالسلام ليبلغنا أن محمود ساتي أبلغه بالتقاط رسالة ذات تعميم مطلق أن مطار الخرطوم مقفول أمام الملاحة الجوية والأجواء السودانية مقفولة كذلك.. تبادل عبدالسلام الحديث مع سيادة العميد عبدالرحيم سعيد رئيس المراسم لإبلاغ الرئيس بالأمر، قلت للمقدَّم عبدالسلام دعنا نستجلي الأمر قبل إبلاغ الرئيس فواصِلْ مع كبينة القيادة. أعتقد أن الكابتن محمود ساتي استطاع الحديث مع مطار القاهرة ومطار الخرطوم وأكدا الخبر. تم إبلاغ الرئيس بالأمر قبل الهبوط بمطار القاهرة فكيف تقبل الخبر؟ أخي القارئ لا أعتقد أن المساحة تسمح بمواصلة الحديث فالجزء الهام من الموضوع جرت أحداثه في مطار القاهرة بحضور الرئيس المصري وقتها السيد حسني مبارك. غداً الإثنين 30 مايو ذكرى رحيل الرئيس جعفر محمد محمد نميري الثانية رحمة الله عليه وغفر له وأدخله فسيح جناته.. وإحياءً لذكرى رحيله وفي مقالي غداً سأكتب عن تفاصيل ما حدث في مطار القاهرة وعن قرار الرئيس بالمغادرة إلى الخرطوم، ومادار بين الكابتن محمود ساتي والمقدم عبدالسلام صالح والمهندس الجوي بولاد من جهة وبين الرئيس نميري من جهة أخرى ولماذا تراجع الرئيس عن قراره وموقف القيادة المصرية من وجهة نظر خاصة.. وسأكتب كيف أصبح الرئيس من غير مراسم وماذا دار في اليوم التالي في قصر الطاهرة الذي أصبح مقرًا للرئيس السوداني السابق، وماذا دار في لقاء الرئيس نهار نفس اليوم بأركان حربه. إنها مواقف مشرِّفة لرئيس فقد سلطته نشهد له بها، ومن حق الشعب السوداني معرفتها فإنها لا تصدر إلا من سوداني صميم أصيل ود مقنَّعة ومالي هدومه!! غداً نلتقي