اشتريت حافلة ركاب في بداية الألفية بعد أن استلمت نصيبي من بيع منزل الورثة الكبير، وكنت أنا وزوجتي سعيدين بها، حيث علقنا عليها آمالاً عراضاً بمغادرة دنيا الفقر إلى غير رجعة، ومن ثم شراء منزل ونوفر قيمة الإيجار، وكمان نودع الديون وهمومها الثقيلة «المتلتلة» وسارعت بشراء كراس لتسجيل الإيراد اليومي للحافلة وأنا أنظر إلى التاجر الذي أقوم بالاستدانة منه يومياً ولسان حالي يقول من الداخل:«يا خوي خلاص طلقنا كراس الدين بتاعك، وده كراس الإيراد والسعد»!! وسارعت بتوصية أحد أصدقائي لإحضار سائق أمين لقيادة الحافلة. وفي اليوم التالي حضر سائق طويل عريض المنكبين يرتدي نظارة سوداء، وحين نظرت إليه استدعيت فراستي فانقبض قلبي، ولكن لم يكن هناك مناص من التعامل معه، وفي اليوم الأول للعمل سلمني السائق الإيراد ولم يكن يقل عن ما هو متعارف عليه في الخط الذي تعمل به حافلتي، وفرحت كثيراً وقمت بتسجيله بعد أن كتبت البسملة والتاريخ والدعاء بالتوفيق، واستمر الحال هكذا ثلاثة أيام سعيدة، لكنه في اليوم الرابع قال لي: يا معلم والله الليلة نزل لينا لستك والعربية قلبت جلود عشان كده هاك الأربعين ألفاً وإن شاء الله بكره نعوضك، وفي اليوم الثاني سلمني إيراداً ينقص قليلاً من إيراد الأيام الثلاثة الأولى، وقال لي: يا معلم الإيراد نقص شوية لأنو الشغل كان كعب واشتغلنا فاضي مليان، ولم أهتم كثيراً، لكنه في اليوم الخامس جاءني قرب منتصف الليل وقال لي: شوف يا معلم القميص ده مليان زيت كيف نحن من ما طلعنا منك عملنا بس فردتين ونحن ماشين وشايلين الركاب نسمع لك كركبة قوية جداً كر كر طوالي يا معلم وقفت العربية ونزلت الركاب ورجعت لهم قروشهم وبعد داك نزلت تحت العربية ولقيت مسمار النص انقطم وأنا طبعاً سواق لكن برضو عندي فكرة كويسة في الميكانيكا وقلت أحسن أوفر قروش الميكانيكي وقمت بتفوير المسمار واشتريت مسامير جديدة وبعد داك الساعة كانت خلاص مغربت ونزلنا الشارع عشان شوية نعوض حق الإسبيرات والشحم وقبل ما نصل الموقف اللستك نزل قمت بنشرتو وعملت مشكلة مع الركاب لأنهم طالبوا بحقهم وقلت ليهم نحن قربنا للموقف ما بديكم لكن بعد شمطة في ناس رضوا واتكلوا على الله ومشوا وفي واحدين عنقدوارجعنا ليهم قروشهم، لكن في اليوم السادس لم يحضر السائق للمنزل وفي الصباح الباكر حضر إلينا فقلت له يا خوي قبل ما تحكي أي سيناريو كدي أديني مفتاحي أنا العربية حأوقفها لحدي ما نشوف ليها صرفة، وعندما علم صديقي حمدان بالحكاية قال لي: أنا بجيب ليك سواق حربي يسلمك كل يوم الإيراد كاملاً وبالفعل أحضر لي رجلاً في الأربعين يغطي وجهه بشال رغم حرارة الطقس وهنا انقبض قلبي كثيراً ولولا أن صديقي حمدان كان حاضراً لقمت بصرفه فقال لي السائق أنا عارف يا معلم في كتير من السواقين في الموقف بستهبلو الجلابي وكلهم بقولوا الجلابي ده ضاربو حجر الدقش ونحن تعبانين وعرقانين، فقلت له بغضب الناس ديل مجانين العربية دي ما تعب واشتراه من حر مالو ومن حقو يلقى قيمة تعبو، فقال لي صاح يا معلم لكن تقول شنو مع الطمع والشيطان، واستمر معي السائق أبو شال عشرة أيام ولم ينقص من الإيراد ولم يشتك من أي عطل بالعربة، غير أنه فاجأني ذات يوم بأن الجربوكس به مشكلة ولا بد من إصلاحه، فذهبت معه إلى حيث كانت تقف العربة واضطررت أن أجمع كل الإيراد السابق ودفعته قرباناً لإصلاحه وحين هممت بالعودة إلى المنزل ناداني سائق كبير السن يقف أمام إحدى الحافلات وقال لي يا معلم العربية حقتك، فأجبت بالإيجاب، وقال لي السائق بتاعك ده كان سائق العربية بتاعتي دي لكن اكتشفت أنو حرامي كبير وشلتها منو وقررت أسوقها براي. فقلت بانزعاج حرامي كيف غايتو لحدي هسه ما أكلني وأداني الإيراد كاملاً، فضحك وقال لي ما هو ده الفيلم ذاتو يديك الإيراد ويفك من العربية أغلى ما فيها ويبدل الأسبير الأصلي بتاعك بسكن تجاري ويخسرك قيمة الأسبير والمصنعية ويشيل كل الإيراد الجابو ليك وحين أتى السائق أبو شال قلت له: يا خوي أنا تعبت من العربية دي ومن بكرة عايز أبيعها فأخذت منه العربة وفي اليوم التالي كنت في الدلالة فوقف أمامها سمسار حبرتجي ولمس العربة، وقال: العربية دي يا معلم مقلوبة عندها قائم مضروب، دي ما بتجيب ليك السعر العايزو فعدت بها إلى المنزل حزيناً لكن زوجتي عندما لمحت الغضب أمسكت عن النقة وانصرفت إلى المطبخ وسمعتها تقول: «الشقاوة تفوتنا تمشي وين»؟؟