شهر رمضان يكاد يكون أيضاً هو شهر «العصيدة» وعند أهل الشمالية هو شهر «القراصة»، وقد تتراجع الكسرة في البورصة الرمضانية كثيراً. ولكن في ولاية الجزيرة للعصيدة فنون فهي كثيراً ما تتدثر وتتزين بمختلف فنون وأنواع «الملحات».. تارة «شرموط أخضر»، وأخرى «تقلية» وقد تجدها بيضاً من مشهد «ملاح الروب» وقد تدخل «البامية» في حلبة المنافسة في رحابها. وصادف أن زارنا عمنا في رمضان مضى بأم درمان وكان من سكان الجزيرة أرض المحنة. وبطبيعة الحال فإنه يتوقع في الإفطار الرمضاني كوكبة السفرة الأم درمانية العصيدة بأنواعها وفنونها العاصمية. ولكن الدهشة ألجمت خياله وخاطره حينما شاهد صحناً واحداً فقط لعصيدة بملاح «تقلية»!! وكنا نفطر كلنا أصحاب حي واحد في الشارع في «الضرا» على عادة أهل السودان ونحن حوالي خمسة بيوت.. لم يكن عمنا يتصور أن خمسة بيوت تخرج صحناً واحداً للعصيدة بالرغم من أن باقي السفرة بها ما لذ وطاب من بقية الطعام والعصائر. لم يخف عمنا دهشته واعتبر أن كل ذلك لا يسوى شيئاً، فتشكيلة المنتخب غاب عنها لاعب أساسي كبير!! فانفجر الرجل قائلاً: إنتو ما عندكم فطور والا شنو؟ فعلمنا ما يدور بخلده واعتذرنا لأن المنتخب يضم لاعباً واحداً بملاح تقلية ربما هو يحتاج لتيم متجانس في عملية «الخد وهات» وقلنا له مبررين ذلك: «يا عمنا كان كل بيت من البيوت الخمسة بيطلع مع الإفطار صحن عصيدة، لكن اكتشفنا إنو ده بزار لأن حوالي أربعة من كل خمسة صحون عصيدة ترجع دون أن يمسها أحد وبعضها ترجع بواقي، فقررنا أن تكون العصيدة كل يوم على بيت»!! لم ترق الفكرة لعمنا فانفجر ضاحكاً، وحكى لنا قائلاً: «نحن هناك في القرية بنفطر عشرة بيوت مع بعض في الشارع.. العشرة بيوت بطلعوا عشرة صحانة كبيرة عصيدة مع بقية الأطعمة.. بترجع منها حوالي ستة صحون شبه مليانة.. إنتو بالنسبة لينا شنو؟ فسألناه: «يعني إنتو كل صحن بتضوقوهو بس»؟ قال: «نعم.. صاحب الصحن يمرر صحنو على بقية الجماعة قائلاً: يا أخوانا حرم تخربوها.. أخربوها»!! ومعنى أخربوها.. يعني ما ترجع سليمة».. أحد جيراننا المتفلسفين في أم درمان وكان يعمل بالبنك يبدو أن المهنة «طلعت في راسو» سأل عمنا قائلاً: معنى كده يا حاج، القرية بتاكل «40%» من الذرة الذي تصنع منه العصيدة فلو قدرنا استهلاك القرية مية جوال في رمضان يعني بتاكلوا «40» جوال وبتدفقوا «60» جوال.. ده غير الملحات»؟! نظر إليه عمنا باستغراب وهو يضحك قائلاً: «دي خجلتكم يا ناس البندر؟.. الخير باسط.. عليَّ الطلاق مطاميرنا مليانة عيش نحن وبهائمنا تكفينا وتفضل.. أها إنت مضايقني في صحن العصيدة الويحيد ده مالك؟ ما تبقى على فولكم ده»؟ فكانت تلك أحلى ذكرى رمضانية مع العصيدة وعظمتها في رمضان. «شنطار» ناس عطشانة.. وناس شرقانة!!: حينما تشاهد المنظر اليومي المألوف لبعض كسورات المياه بالشوارع لبعض أحياء محلية كرري، خصوصاً الطرفية، ثم تفتح الجرايد وتقرأ عن أزمة «خانقة» للمياه للكثير من أحياء العاصمة تستغرب!! حينما تشاهد الماء ينساب رقراقاً عذباً من ماسورة رئيسية مكسورة بأحد الشوارع ليلاً ونهاراً، يغمر الطرقات ويصنع بركاً آسنة، حينها تحزن لمواسير أخرى بنفس الولاية «تشخر» ويكاد يلازمها الصدأ من العطش!! وطبعاً السبب الرئيسي لكل هذا وذاك يعود لسوء التخطيط والتنفيذ!! نعم شبكات جديدة لم تنفذ بالمواصفات العلمية المطلوبة سيدفع ثمنها المواطن والدولة، والذين نفذوها «يشخرون» كما «تشخر» مواسيرهم. وفي كلا الحالتين فإنه إن دخلها الماء انكسرت وإن جافاها شخرت!! اللهم ندعوك ونحن في هذا الشهر العظيم أن تصلح أحوالنا كلها يارب العالمين.