في إحدى إشاراتها التوثيقية العميقة المغزى من حيث ما تنطوي عليه وما تشير إليه من دلالة بعيدة المدى... ذكر المفكر والكاتب الكبير د. منصور خالد أن مثقفين من الجارة الشقيقة إثيوبيا كانوا قد زاروا الزعيم الوطني والمرشد الختمي الراحل المرحوم السيد علي الميرغني في أواسط القرن الميلادي العشرين الماضي.. وأثناء تبادل الحديث معه تساءل أعضاء الوفد الإثيوبي عن الأسباب التي جعلت العلاقة بين دولتي وادي الممر والمعبر والمصب والمستقر لنهر النيل في السودان والجارة مصر الشقيقة وثيقة وحميمة ودافئة وشديدة الصلة لدى المقارنة بينها وبين العلاقة بين السودان والجارة إثيوبيا التي ينبع منها ويأتي منحدراً منها الى السودان ومصر الجزء الأعظم والأهم من الحياة التي يحملها نهر النيل الى البلدين الشقيقين في دولتي الوادي كمعبر وممر أو مصب ومستقر لمياه النهر. وكما ذكر د. منصور فقد رد السيد علي الميرغني على ذلك التساؤل من وفد المثقفين الإثيوبيين الذين قاموا بزيارة له بقوله إن التأثير المصري في السودان لم يأت من فراغ، وإنما هو نتاج طبيعي للدور الثقافي والحضاري المصري على الصعيد السوداني، وأشار السيد علي الميرغني في سياق هذا الإطار إلى أنه بينما يقرأ الشعب السوداني الكثير من المطبوعات الثقافية المصرية، ويتعلم الكثير من السودانيين في المدارس والجامعات والمعاهد العليا المصرية، ويستمعون للإذاعات المصرية ويشاهدون التلفزيون المصري والسينما المصرية، فإن الجانب الإثيوبي ليس لديه أي تأثير على الصعيد السوداني في مثل هذه المجالات الحيوية والحضارية وذات الانعكاسات الإستراتيجية على طبيعة العلاقات بين الدول والشعوب المتجاورة أو حتى غير المتجاورة، لكنها مرتبطة ومشدودة الى بعضها البعض بمثل هذه الأنماط من العلاقات الثقيلة الوزن والشديدة الوطأة في التأثيرات الناجمة عنها والناتجة منها على كل الأصعدة وفي جميع المستويات. ولكن ورغم ما أشار إليه الزعيم الوطني والمرشد الختمي الراحل المرحوم علي الميرغني، كما أورده د. منصور، قد كان وظل وسيبقى مسألة معبرة عن الحقبة الواقعة والقائمة بهذا المعنى وفي هذا المنحى من حيث النظر الى طبيعة العلاقة والتأثيرات المتبادلة بين دولتي وادي النيل في السودان ومصر، وتفوق الأخيرة على الجارة الشقيقة إثيوبيا من حيث القدرة على أن تكون لديها مثل هذه العلاقة المماثلة مع السودان المجاور لها والمتداخل معها والمؤثر فيها والمتأثر بها.. إلاّ أن مثل هذه الحقيقة ليست كافية فيما يتعلق بمدى تعبيرها عن الدور الإثيوبي، وما ظل يقوم به من تأثير على الصعيد السوداني في المستوى الإستراتيجي البعيد المدى لمثل هذا النمط من الرغبة في التأثير والقدرة عليها والإقدام على القيام بها بالفعل. وبناء على مثل هذه الرؤية لطبيعة العلاقة القائمة والتأثيرات المتبادلة بين السودان والجارة إثيوبيا من حيث مدى ما لدى الأخيرة من قدرة ظلت تتمتع بها وتعبر عنها في هذا الصدد وبهذا الخصوص مقارنة مع غيرها من الدول الأخرى المجاورة للسودان بما فيها الجارة الشقيقة مصر في الجزء الشمالي من وادي النيل.. فربما قد يتمكن ويجوز القول إن التأثير الإثيوبي على الشأن السوداني في الواقع قد ظل أكبر وأقوى بكثير من التأثير المصري في هذا الجانب لدى النظر إليه على الصعيد الإستراتيجي من حيث ما ينطوي عليه وما يشير إليه من دلالة في المعنى والمنحى والمغزى البعيد المدى. ورغم أن الاستقلال الوطني للسودان من الاستعمار البريطاني في أواسط القرن الميلادي العشرين الماضي كان قد تم بتأثير مصري لم يكن يخفى على أحد، حيث أن الجارة مصر نفسها كانت تسعى في تلك الأثناء الى الحصول على استقلالها الوطني من ذات السلطة الاستعمارية والإمبريالية بريطانيا العظمى في تلك الفترة، وذلك على النحو الذي أدى الى وجود حالة من الكفاح المشترك والمصير المشترك بين البلدين والشعبين الشقيقين بدولتي وادي النيل في ذلك الحين. رغم ذلك، فقد تمكنت الجارة الشقيقة إثيوبيا من ممارسة قدرة واسعة وواضحة من التأثيرات النافذة والمؤثرة بدرجة شديدة الوطأة على كل الأنظمة الوطنية السودانية المتعاقبة على سدة مقاليد الحكم والسلطة بالقصر الجمهوري في ملتقى ومقرن النيلين الأبيض والأزرق بالخرطوم.. كما سنرى.