ربما تخطئ نظرية المسؤولية الاجتماعية للإعلام إذا ظنت وتوهمت، بأن الصحافة تظل هي مبعث الخطر على المجتمعات وانه لابد من قوانين او كوابح للحد من هذا الخطر، ولكن النظرية نفسها تجاهلت بأن الذين يمارسون مهنة الصحافة والاعلام هم أيضاً في حاجة الى من يحميهم من خطر المجتمعات وتفلتاتها، فكم من الجرائم التي ارتكبت مع اصحاب هذه المهنة وهم يمارسون مهنتهم حماية لمجتمعاتهم وكم من الدماء التي سالت في بلاط صاحبة الجلالة؟ فبالامس دفع أخونا عثمان ميرغي ثمن المهنة ومهرها وتحمل اخطاء نظرية المسؤولية الاجتماعية للصحافة، التي ساندت طرفاً دون آخر. وهذه الحادثة المشينة تعطي تبريراً واضحاً بان اصحاب مهنة الاقلام هم وقودها وهم ظهرها المكشوف، فلم يجد الصحفيون من يحميهم من مخاطر الجانحين والمنفلتين من مجتمعاتهم وحتي الحكومة نفسها وفي كثير من حالات غضبتها او تعاطيها مع اصحاب هذه المهنة، تجد نفسها في خانة الجاني ضد الاقلام الصحفية لان العلاقة القائمة أصلاً بين الصحافة والسلطة هي علاقة شك وتربص وتجني، ولهذا فان الطرفين يتبادلان باستمرار خانة الجاني. وما حدث أمس الأول للاستاذ عثمان ميرغني صاحب «التيار» محطة فاصلة في شكل وطبيعة علاقة الصحافة مع محيط السلطة والمجتمع، وهي بذلك حادثة جديرة بالتوقف والتأمل في مآلاتها واسقاطاتها وتستوجب على اهل المهنة البحث عن مصدات لازمة تحمي بها ظهرها ضد كل الذين تضيق صدورهم بالرأي والرأي الآخر. نحن في حاجة الى نظرية جديدة والى عباقرة آخرين، للبحث عن صيغ ومعادلات اخرى تعيد انتاج نظرية المسؤولية الاجتماعية من جديد، باعتبار ان هذه النظرية كما ذكرنا آنفاً مبنية على فرضية حماية المجتمعات من الصحافة فقط، ولكنها لم تحمِ الصحافة من هذه المجتمعات. حتى لا نجوع ما الذي يمنع بلادنا من المجاعات التي نطلق عليها دلعاً وتخفيفاً بالفجوات الغذائية، ويجعل بلادنا هذه مسكونة باخطر الازمات الاقتصادية والجوع والغلاء واختلال الموازين في قسمة الثروات والموارد؟ أليست كل معطيات الاحساس بالمجاعة القادمة متوفرة الان، ونرى ملامحها ومشاهدها؟ ثم ما الذي دعا الاممالمتحدة لاطلاق هواجسها وقلقها بان السودان مقبل على مجاعة او نقص حاد في الغذاء استناداً الى ما لديها من تقارير واحصاءات وشواهد ومعطيات؟ لماذا لا نتعامل مع تقارير الاممالمتحدة بمنطق وعقلانية.. كل المؤشرات تتحدث بان الاقتصاد السوداني يعاني من نكبات وتراجعات وازمات حقيقية، فالثروة الزراعية تعاني من امراض مستعصية العلاج، ومشروع الجزيرة الذي كانت قد صنفته منظمة الاغذية العالمية بانه احد اعظم ثلاثة مشروعات كبرى يعول عليها لسد اي فجوة غذائية في العالم، الان سقط مغشياً عليه بعد ان تكالبت عليه الضربات الموجعات فاصابه الضعف والهوان والفقر، فلم يعد يتحمل فاتورة الانفاق على نفسه فعجز هو وعجزت أيضاً الجزيرة فاستحكمها الفقر واتسعت قاعدة البطالة وافقرت الاسر من اقتصادياتها، فالمشهد هذا يعني ان سلة غذاء العالم باتت تبحث عن غذاء يغطي فقط حد الكفاف. ومن المؤشرات الاخرى التي تبعث الاسى، ان استثماراتنا الوطنية هاجرت الى بعض دول الجوار وتحديداً الى اثيوبيا، حيث تقول التقارير الرسمية ان اكثر من «2,5» مليار دولار هربت من السودان للاستثمار في الجارة اثيوبيا، الدولة التي تتقاصر قامتها الاقتصادية مع امكانيات الاقتصاد السوداني، وهناك أيضاً عشرات المليارات من الدولارات المهاجرة رفضت العودة وبقيت هناك في مهاجرها، تبحث عن استثمارات وملاذات آمنة بالخارج لان قانوننا الاستثماري والذي تغزلت فيه الحكومة ووصفته بانه يحمل الوعد والبشرى ويفجر الطاقات، فهو يتمزق كل يوم الف مرة وتنتهك نصوصه تحت طائلة البيروقراطية الابجدية وتعرقل اجراءاته تقاطعات المركز والولايات، فتعقدت الامور وانتكست وتداخلت المصالح والجهويات فحمل رأس المال الاجنبي حقائبه وعاد الى من حيث أتى، فظلت مواردنا هكذا حبيسة في بواطن الارض وفضاءاتها وبين جنباتها تنتظر ارادة اخرى وقانوناً آخر وفكراً جديداً، والا فاننا سنظل الى الابد امة فاشلة وعاجزة عن مواجهة الثالوث المرعب «الفقر والجهل والمرض». الحوار التائه تحاول الحكومة إسراع الخطى للوصول الى نقطة النهاية في مسيرة البحث عن حوار لكن المعارضة تتلكأ.. يوافق الصادق المهدي ثم «يتلجلج » .. ولاحقاً يخرج غازي يده من «المائدة» ثم يغسلها وينعي الحوار ثم يعود مجدداً بفهمه وشروطه ومزاجه الخاص.. يقتحم الشيخ الترابي حلبة النزال يتوجس «العقائديون» ويصمت صقور المؤتمر الوطني.. تتجه الحكومة الى تشكيل الالية «السباعية» هنا يتوقف الحوار لان الآلية في حاجة الى قوة دفع جديدة .. ثم تنطلق الآلية الى مقاصدها.. وفي غمرة الانشغال تشتعل الاطراف وتندلع الحرب وتتسع دائرة النازحين وضحايا الحرب.. توافق الحركات المسلحة على قبول خيار الحوار يخرج «موسى هلال» ويحتمي بثوار الجبهة المسلحة.. تغضب سارة نقد الله وتهم بقلب الطاولة على كل المتحاورين.. يهادن كمال عمر المؤتمر الوطني ويغازله ثم يدافع عن رؤيته ومواقفه وسياساته.. يُطرد اسماعيل حسين من «قبة» البرلمان بعدها يقتحم محمد الامين خليفة مكتب الدكتور الفاتح عز الدين وبعد نصف الساعة فقط يخرجان معاً يتبادلان «الابتسامات».. الصادق المهدي «يحرد» والترابي «يربت على كتفيه ويطمأنه ثم يحفزه ويضع بين يديه حزمة من الضمانات ان عاد للحوار ..«والمهدي» يوافق .. لكن التحالف يعارض ويطالب «حزب الامة» بتوضيحات او تفسيرات لموقفه «الاخير» ..الشيوعي يعتكف بعيداً عن اللعبة .. والبعث يتمسك بخيار «الاسقاط» .. قطاع الشمال يهادن ويقترب من طاولة الحوار .. ولكن الحلو يقصف كادقلي «بالكاتيوشا» .. وكاودا تنتظر خريف هذا العام حتى تقع في قبضة القوات المسلحة. تلك هي «الملهاة» الحقيقية وبعض السيناريوهات التي تتكرر وتتجدد يوماً بعد آخر تقلق الحكومة وتحبط محمد أحمد السوداني وتلوكها الصحافة وتسود بها صحائفها.. المواطنون يحدقون في مانشيتاتها فلم يجدوا وعداً ولا بشارة ولا حتى اعانة في معايشهم، فادركوا ان الذين يتحاورون ثم يتجادلون ويختصمون من اجل ذواتهم وكراسيهم فقط لا شيء غيرها ثم يكف هؤلاء المحدقون عن الشراء لانهم تذكروا ان رطل اللبن بلغ أربعة جنيهات وكيس الخبز سعة ثلاثة «رغيفات» اصبح يباع بجنيه .. وكيلو اللحمة الضان بلغ السبعين جنيهاً واكثر ويستمر السوق في نيرانه.