يكتب من أمري: هاشم عبد الفتاح لم يكن مشروع سد مروي مشروعًا إستراتيجيًا لقيادة نهضة تنموية شاملة يمتد نفعها وخيرها إلى خارج جغرافية السودان ولكنه كان بمثابة تغيير وتحول جذري في نمط وسلوكيات الحياة وفي طبيعة تفكير إنسان المنطقة بصفة خاصة والإنسان السوداني بشكلٍ عام هذا ما أقرَّته حقائق الواقع وأثبتته الدراسات والبحوث والتجارب. حزمة من التحوُّلات المباشرة وغير المباشرة عايشتها وتعايشها ولايتا الشمالية ونهر النيل في وقت ولدت من رحم المشروع عبر مخاض عسير لكنه الآن بدأ يحصد بعضًا من الثمار بعد أن مضت إرادة الدولة في طريق لم يكن سالكًا أو مفروشًا بالورود ولكنها تعبت كثيرًا فأرهقتها التسويات والمنازعات والمواجهات، بعض منها مشروع وكثير منها لا تحكمه قيم أو أخلاق أو وطنية.. غير أن كثيرين تغزلوا في سد مروي وكتبوا أجمل الملاحم وصاغوها شعرًا وأدبًا ومسرحًا احتفاءً وتمجيدًا لهذه الإرادة التي جعلت هذا الحلم ممكنًا والسكة واضحة المعالم مهما كان حجم وطبيعة المتغيِّرات التي تنتظر السودانيين في سودانهم وفي «ربيعهم العربي». متغيِّرات ما بعد الفتح لكن يبقى الكسب الأهم والتحوُّل الأكبر أن الذين دفعوا مهر هذا السد هل فعلاً وجدوا الحق الذي يكافئ ما كان بيديهم من أرض وثروات زراعية وخدمات تنموية والحقيقة البائنة أن الذين شاهدوا أو عايشوا فترة ما قبل السد وواقع الحياة هناك سيجدون أن هناك اختلافًا وبؤسًا كبيرًا انطبع على حياة الناس قياسًا بما هو موجود من معطيات وبما هو موثق في أدبيات المشروع الكلي لسد مروي الذي شكل فتحًا جديدًا في الفكر التنموي والاقتصادي. وكم من الخطط والمشروعات والمليارات والجهود والأفكار دفعت بها إدارة سد مروي عربونًا لاستكمال حلقات هذا البناء الإستراتيجي وفاءً وإخلاصًا لبلد لطالما أنهكته الحروب وأوهنت قواه الاقتصادية والتنموية والتحتية وعطلت مسيرته كثيرًا ومن بين المشروعات التي ولدت لامتصاص احتجاجات المتأثرين كان خيار مشروع أمري الجديدة الزراعي كأحد أهم الخيارات التي تم التفكير فيها لتعويض هؤلاء المتأثرين بمساحة كلية قدرها 82 ألفًا و206 فدان بما في ذلك القرى السكنية والطرق المسفلتة والطرق الترابية والمخصص من هذه المساحة للزراعة 35 ألف فدان تمت زراعة 16 ألف فدان منها العام الماضي بمختلف المحاصيل والمستهدف للعام الحالي 18 ألف فدان. واحة الصحراء وقد لعبت الطبيعة الصحراوية دورًا قاسيًا أثقل على إدارة المشروع الكثير من المتاعب والتحدِّيات والمسؤوليات، فالرقعة الزراعية المختارة لهذا المشروع الزراعي تقع في نطاق مناطق صحراوية وهي صحراء بيوضة وصحراء العتمور، ولم تكن المنطقة نفسها تصلح للحياة الآدمية دون أن تجرى إصلاحات أو تتخذ لها التحوُّطات الكافية ما عدا بعض الحلات والظواهر الرعوية الموسمية التي تمارسها قبائل الهواوير للرعي في أشجار السلم على جنبات وأديي الجديان ووادي المقدم، واللذان ربما يشكلان المصدر الوحيد والعزيز للمياه المطرية القادمة من سهول كردفان وأوديتها.. حينها كان لزامًا على إدارة سد مروي أن تقوم ببعض الإصلاحات والتحوُّطات من أي تحولات أو تقلبات في هذه البيئة الصحراوية القاسية فعمدت إدارة المشروع إلى زراعة حوالى 64 ألف شجرة غابية للحد من مخاطر التصحر التي يمكن أن تأثر سلبًا على الزراعة في مشروع أمري ولكن المشروع قام واكتملت حلقاته ومراحله فأصبح كالواحة في قلب الصحراء تعطي الخضرة والنسمة والعشب والحياة بكل مكوِّناتها ومطلوباتها للإنسان بل إن كثيرًا من المزارعين المنتسبين لهذا المشروع اتخذوا من مزارعهم حيزًا للسكن والاستجمام عبر استراحات بلدية، وآخرون أعلوا من شأن الثروة الحيوانية وأفسحوا لها أماكن خاصة لتكتمل لدى هؤلاء ضروريات لا غنى عنها في سبيل تلبية الاحتياجات اليومية، فالمشروع منذ انطلاقته لا يوجد فيه سوى «ثورين» فقط والآن بلغ حجم الأبقار فيه أكثر من 250 وأن إدارة المشروع حريصة على توطين الثروة الحيوانية ومضاعفة أعدادها بحكم توفر كل الموارد من مياه وأعلاف ومراعي.. هذا ما وجدناه واقعًا حقيقيًا داخل «حواشة» العم خليفة محجوب بالقرية 4 فحكى لنا قصة الرحيل والاستقرار والزراعة والإنتاج وتربية الثروة الحيوانية داخل مزرعته وقال إنه مقيم في هذه الحواشة منذ أربع سنوات وبكامل أسرته جاء إلى هنا من أمري القديمة إلى أمري الجديدة كأحد المتضررين والمستحقين للتعويضات في مشروع أمري الزراعي وفي معيته 13 من «الخراف والبهايم» وإنه الآن يمتلك أكثر من 70 رأسًا من هذه الثروة ويحمد الله كثيرًا على ذلك، وفي توصيفه لحال المشروع والظروف التي يمر بها أبدى العم خليفه كامل رضائه بالواقع ونفى بشدة أن تكون لديهم أية مشكلة في الري أو الإنتاج أو التسويق وأشار إلى أنهم يشيدون بإدارة المشروع ولا يقبلون بديلاً منها. حليب وقنديلا نموذج آخر يعكس حقيقة التحوُّل الكبير الذي أحدثه مشروع أمري في واقع حياة الناس هناك فالشيخ عبد الرحمن حمزة مزارع «مقعد» يبدو أنه في الستين من عمره يتحرّك على أرجل صناعية، الأقدار وحدها هي التي جعلته صاحب الحواشة الأخيرة في المشروع وفي القرية 5 ولم يكن هذا الرجل يحلم أو يفكّر يومًا بأنه سيمتلك فارهة موديل 2006 من حر ماله وإنتاجه حتى تعينه على الحركة والتواصل مع أهله ومجتمعه وحينما دخلنا على هذا الشيخ في مزرعته وجدناه متكئًا على «عنقريب بلدي» تحت ظلال إحدى الرواكيب الملحقة ببناية طينية مقاومة للأمطار من طراز أهل الشمالية وإبداعاتهم في بناء المنازل التي تستوعب مناخ وجغرافية المنطقة استقبلنا هذا الشيخ وهو منبسط الأسارير هاشًا باشًا وأحسن إكرامنا بشاي الحليب الصافي وبلح القنديلا الطازج تحلقنا جميعًا حول الشيخ عبد الرحمن حمزة بعد أن صلينا معه المغرب فحكى لنا تجربته مع الزراعة والعوائد التي جناها من مزرعته وأشار بالعصا التي يتكئ عليها إلى عربة بوكس موديل 2006 رابضة بالجوار قال إنها من إنتاج هذه المزرعة قمحًا وبلحًا وإنه الآن على أحسن حال وسعيد بإنتاجه وبمزرعته. تعقيدات المشروع ورغم كل هذه الإشراقات إلا أن الصورة لا يبدو أنها مكتملة الجوانب أو زاهية المنظر فمن خلال هذه الزيارة أو الجولة الصحفية التي وفرتها لنا إدارة المشروع كوفد صحفي قادم من الخرطوم أن المزارعين صوتهم يعلو وعتابهم يزداد حينما يكون الحديث عن «كهربة المشروع» هذا ما قاله معظم المزارعين الذين التقينا بهم وعرفنا الكثير عن ميولهم ورغباتهم فالمطلب الذي لا شيء سوى أن تعالج قضية الكهرباء؛ لأن مياه الري مرهونة بتوفر الجازولين.. ولم يذهب المهندس الصادق عثمان مدير مشروع أمري الزراعي بعيدًا عن ما ذكره بعض هؤلاء المزارعون لكنه لم يعطِ أي مبررات لعدم إدخال الكهرباء في هذا المشروع بيد أنه وصف المشروع «بالمعقد جدًا» وأنه كغيره من المشروعات الزراعية في السوداني يعاني ويواجِه ذات المشكلات التي تواجِه هذه المشروعات ولكن مشروع أمري له ميزة تفضيلية فالإدارة فيه طيلة السنوات الخمس الماضية ظلت تتكفل بكل أعباء وتكاليف الري والتحضيرات وتوفير الأسمدة والتقاوي مجانًا وهذا ما لم يجده أي مشروع زراعي آخر في السودان ولكن يبدو أن هناك تمنعًا وعدم استجابة من قبَل بعض أصحاب الحواشات للزراعة الأمر الذي أدى لحدوث فراغات غير مزروعة ولذلك ظلت هذه المساحات خارج دائرة الإمداد المائي.. لتصبح الصورة لدى البعض أن المشروع يعاني من حالة عطش حسبما قال المهندس الصادق في روايته للصحفيين. مزارعون بالوكالة وحينما سألنا السيد المدير المهندس الصادق حول أن بعض الحواشات لم تصلها المياه قال: «صحيح هناك بعض الشكاوى التي وصلتهم من بعض المزارعين في الخصوص وهذا نعزيه إلى انعدام الجازولين لتشغيل طلمبات المياه في فترات سابقة «ولكنه أكد أن القضية هي ليست قضية مياه أو عطش وإنما بسبب الإهمال من بعض المزارعين الذين أعطوا حواشاتهم لآخرين لتدار نيابة عنهم بالوكالة وهم بعيدين عن المشروع والمياه الآن متوفرة وليست فيها أية مشكلة وأن الذين يتحدثون باسم المشروع ليس هم أصحاب الشأن وأضاف: نعتقد أن مشروع أمري الزراعي خطى خطوات كبيرة في اتجاه التنمية والاستقرار وأن إدارته وفرت كل وسائل ومعينات الاستقرار بل إن المشروع أسهم كثيرًا في فتح أسواق جديدة للإنتاج الزراعي وانتعاش حركة التجارة فيها إلى جانب قيام بنيات تحتية كبيرة في المنطقة بفضل هذا المشروع.. ويبدو أن أموال التعويضات بعثت روحًا جديدة في حركة الأسواق هناك خاصة في كريمة وأمري والملتقى وقال المهندس الصادق: إذا بعدنا عن السياسة والضرب تحت الحزام فسيمضي المشروع بخطى حثيثة وواثقة» «على حد قوله».