من النادر أن تعلن أجهزة المخابرات في العالم عن عملياتها السرية ونجاحاتها، وتظل مثل هذه الإنجازات مطمورة تحت رمال الكتمان، ولا تعلن إلا بعد مضي سنوات طويلة عليها أو للضرورة القصوى، وذلك أن طبيعة هذه الأجهزة تقتضي الحجب والستر وعدم الكشف عن تفاصيلها أو الإشارة إليها، مثل عملية الحفار لافون ورفعت الجمال «رأفت الهجان» عند المخابرات المصرية، أو عمليات قام جهاز جهاز ال «كي. جي. بي» في الاتحاد السوفيتي السابق في الدول الغربية في أوروبا والولايات المتحدة أو عمليات ال «سي. أي. أيه» في دول المعسكر الشرقي إبَّان الحرب الباردة وما تلاها، أو العمليات التي كان مسرحها منطقة الشرق الأوسط على خلفيَّة الصراع العربي الإسرائيلي. وتدور في عالم المخابرات وقائع وأحداث تكون في بعض الأحيان أقرب للخيال منها للحقيقة، لغرابة الموقف والدافع والمبررات السياسية وراءها، والدواعي الاستخبارية لها وهدفها الاستراتيجي الذي غالباً ما تتعامل به أجهزة المخابرات في رسم معالم الهدف الاستراتيجي وتحديده، أو لنوع المصالح والعلاقات المتقاطعة بين أجهزة المخابرات التي ترتبط بعلاقات مع بعضها البعض حتى في أوج عداوات الدول التي تتبع لها. ومع كثرة العمليات التي تقوم بها المخابرات وجعلها طي الظلام الكتم، ووضع تفاصيلها في الأضابير، فإن تسريب الكثير من المعلومات حول هذه العمليات، قد يخدم أغراضاً وأهدافاً مرحلية واستراتيجية، وقد يكون ضاراً، فالكشف سلاح ذو حدين في مثل هذه العمليات السرية. بالأمس نشرت وسائل الإعلام وصحف محلية خبراً منقولاً عن غرفة العمليات العسكرية الليبية، عبرت فيه عن شكرها وتقديرها للدور الفاعل لجهاز الأمن والمخابرات السوداني في عملية القبض على سيف الإسلام القذافي، وعلق مصدر أمني لدينا للمركز السوداني للخدمات الصحفية (SMC) بقوله: «إن جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني لعب دوراً محورياً أساسياً في الدعم الفني والتنسيق العملياتي مما قاد للقبض على سيف الإسلام القذافي بجنوب ليبيا، وأن هذا الدور امتداد لدور الحكومة السودانية في دعم الثورة الليبية»... كما تواترت أنباء عن دور كبير قامت به المخابرات السودانية في القبض على عبد الله السنوسي مدير المخابرات الليبية في عهد القذافي وعديله، والعدو الأول للسودان في العهد السابق في ليبيا، عندما كان يختبئ في مناطق قرب الحدود السودانية الليبية. صحيح لا توجد تفاصيل كثيرة عن هاتين العمليتين، لكن نظراً لطبيعة الوضع في ليبيا والجوار الجغرافي وتداخلات عوامل مختلفة، يمكن تصور هذا النوع من العمليات، فقد كانت هناك صلة قوية لحركات دارفور المتمردة بنظام القذافي في ليبيا، وكانت المخابرات السودانية تراقب عن كثب وتتابع هذه العلاقات التي بلغت ذروتها في هجوم حركة العدل والمساواة على مدينة أم درمان الذي كان بدعم ليبي كامل من وسائل الحركة للسلاح للتنسيق العملياتي والدعم اللوجستي والمعلومات والمسح الميداني والاتصالات. وكان عبد الله السنوسي الذي قبض عليه أول من أمس هو المدبر لكل أنشطة الحركات المسلحة في دارفور، وتنسيق علاقاتها مع الجوار الإفريقي للسودان، ومع الحركة الشعبية في الجنوب التي وجدت هي بدورها دعماً من القذافي منذ نشوئها في عام 1983م. ومن الطبيعي أن تراقب المخابرات السودانية الحدود مع ليبيا ومنع تسلل الفارين من نظام القذافي إلى السودان أو لجوء بعضهم لمناطق وجود الحركات المسلحة، ومنها حركة العدل والمساواة التي خاضت الحرب لصالح القذافي في ليبيا، وهرب رئيسها قبل سقوط العاصمة طرابلس في يد الثوار بساعات. ومن الطبيعي أن تكون الاتصالات بين حركات دارفور والمجال الاتصالي الليبي في زمن القذافي وبعده مراقبة من المخابرات السودانية، وكل التحركات التي تقوم بها تحت السمع والبصر الدقيقين، وربما قادت اليقظة وحسن المتابعة والمراقبة السودانية ودقة الرصد، إلى خيوط أوصلت لمكان وجود سيف الإسلام وعبد الله السنوسي بجنوب ليبيا، وتم التعاون بين المخابرات السودانية وأجهزة ثوار ليبيا العسكرية كما يحدث بين كل الدول، وتم تنسيق عملية استخبارية على درجة من عالية من السرية والكفاءة المهنية، كانت نتيجتها سقوط سيف الإسلام القذافي والسنوسي في أيدي الثوار. وكما أن للنصر آباءً كثيرين فقد ادعت صحيفة الديلي تلغراف الإنجليزية، أن المخابرات البريطانية (MI6) هي التي ساعدت في تحديد مكان نجل القذافي حتى ألقي القبض عليه. يمكننا أن نتباهى بالإنجاز الكبير لمخابراتنا الوطنية في عمليات مثل هذه، لكن هل من الحكمة الإعلان عنها؟ ولماذا؟ وكيف؟