كانت بعض النساء يطربن الناس في المناسبات بأغنية «يا ماشي لي باريس جيب لي معاك عريس.. شرطاً يكون لبيس من هيئة التدريس». أي أن يكون هذا «العريس» أستاذاً جامعياً.. وعضو هيئة التدريس بإحدى الجامعات ومن ضمنها طبعاً جامعة السربون في باريس التي نال منها حسن الترابي درجة علمية عليا. والآن يجتمع الصادق المهدي رئيس الوزراء المنتخب عام 1986م بقادة متمردي الجبهة الثورية، ليخلصان إلى إعلان باريس. وإعلان باريس لا يحمل في بنوده التي اتفق عليها الطرفان أية فكرة يمكن أن تشكل اختراقاً لأبسط مشكلة من بين المشكلات التي تمر بها البلاد.. الأمنية والاقتصادية والسياسية. وقد غلبت المغالطات السياسية والتاريخية على الإعلان الباريسي. ومثلما استحال «العريس» أن يؤتى به من باريس ومن هيئة التدريس، استحال أيضاً أن يؤتى بالحل من هناك في «إعلان باريس». وناقش إعلان باريس نقاطاً حسمتها جولات التفاوض التي سبقت اتفاقيات نيفاشا وأبوجا والدوحة والشرق والقاهرة وجيبوتي «نداء الوطن». لذلك أصبحت مغالطات لا معنى لها. ومن ضمن هذه المغالطات ما جاء في الفقرة السابعة من الإعلان، حيث تقول: «يؤكد الطرفان أن نظام الإنقاذ يتحمل مسؤولية العنف في الحياة السياسية واستهداف المدنيين وتوسيع دائرة الحروب وارتكاب جرائم الحرب وفصل الجنوب».. انتهى. عبارة «العنف في الحياة السياسية» ترى هل هي واضحة المعنى لكل أبناء الشعب؟! هذا أولاً، ثم هل مقصود بها أشياءً يمكن أن نعتقد بأن مثل قادة التمرد لو وصلوا إلى الحكم لن يجدها منهم الشعب؟! طبعاً وصولهم إلى الحكم لن يكون بالطريق الديمقراطي إذا وصلوا، وسبق أن قال السيد الصادق المهدي إن تغيير النظام الحاكم بالقوة سيأتي ببديل سيكون أقسى وأسوأ.. أي أن الوريث السياسي لن يكون هو المطلوب. أما إذا كان المقصود هو إجراء عملية ديمقراطية نزيهة فهي إذا أوصلت السيد الصادق الى الحكم حسب رؤيته، فلا علاقة لها إذن باجتماعات وإعلان باريس. ويبدو أن تلك الاجتماعات جاءت لتكون جسراً نفسياً لبعض قادة التمرد للعبور به إلى الخرطوم بماء وجه محفوظ.. هذا احتمال. أما «توسيع دائرة الحروب» التي أشارت إليها الفقرة السابعة.. فهي تجعلنا هنا نطرح سؤالاً معيناً: هل دعت الدولة إلى استئناف التمرد في الناحية الجنوبية بعد انفصال الجنوب؟! وهل دوافع استئنافها بواسطة الفرقتين التاسعة والعاشرة التابعتين للجيش الشعبي بالضرورة هي مبررة؟!.. وهل يصدق أحد أن هذه الدوافع منطلقة من نزاهة سياسية؟! وهل يتمتع قطاع الشمال بالنزاهة السياسية وهو يتعامل مع «المناضل النوبي» تلفون كوكو بطريقة غير لائقة، ولا تليق بزمالة «النضال»؟! بعد ذلك نأتي لنتحدث عن تحميل إعلان باريس مسؤولية انفصال الجنوب لهذه الحكومة؟!. ونبدأ بالسؤال البسيط هذا: ترى إذا كان السيد الصادق المهدي في الحكم منذ عام 1986م إلى وقت إجراء الاستفتاء حول تقرير مصير الجنوب، هل كانت أغلبية الأصوات ستكون لصالح استمرار الوحدة؟!. ولماذا إذا كانت الإجابة بنعم؟! إن في مفهوم الحركة الشعبية أن الدافع للتصويت للانفصال بنسبة أكثر من ثمانية وتسعين بالمائة هو سياسات الحكومة الوطنية منذ عام 1954م، ونحن نقول هو سياسات الاحتلال البريطاني منذ عام 1898م منذ حملة كتشنر العدوانية. ولا توجد حكومة أفسحت المجالات كلها باختلافها للجنوبيين للتمتع بما يريدون مثل حكومة البشير، وهذه معلومة الجهل بها فضيحة معلوماتية كبيرة. ثم إن الاستفتاء لم تشترك فيه أصوات شمالية حتى نقول إنها رجحت نتيجته لصالح فصل الجنوب، ثم إن أغلب المستفتين هم أبناء الجنوب داخل جنوب السودان، وهم لم يحتكوا بالشماليين، لكن الدعاية المغرضة هي التي حملتهم لخيار الانفصال. «نواصل غداً بإذن الله».