أحداث مثيرة تطارد هذا الملف الذي ظلت العديد من جوانبه خفية حتى الآن رغم مرور ثلاثة عقود عليه.. بحسبان أن العملية برمتها تمت تحت غطاء عال من السرية رغم كشفها لاحقاً قبل اكتمالها على النحو الذي خطط له، ما أدى إلى فشل العديد من مراحلها التي تم الجانب الأكبر منها في قلب الخرطوم.. ما هو الجانب الخفي منها وكيف وضعت سيناريوهاته تحت ستار الظلام.. ومن هو صاحب جدائل الشعر الشقراء والقلنسوة الصغيرة وكيف نقلت سفينة «بات جاليم» الفلاشا من عرض البحر الأحمر الى تل أبيب، كيف انقلب قارب عملاء الموساد الأربعة عندما انقضت عليهم الشرطة السودانية في عرض البحر ؟ .. لإماطة بعض اللثام المضروب على هذا الملف ربما توجب علينا هنا الغوص في العديد من التفاصيل.. صيف حار كانت درجة حرارة الأجواء في الخرطوم خلال صيف 1981 أقل بكثير من درجة حرارة الأحداث بالنسبة لهؤلاء.. فقد خرج مرة أخرى الى السودان مندوبو «بيتسور» وهي وحدة ميدانية خاصة تابعة للموساد تعني بالعبرية «تحصين» ، وبدأت «بتسور» تتسلل لتنفيذ مهامها في الخرطوم لتهجير اليهود الفلاشا من مخيمات اللاجئين. وقد وصفهم الموساد باسم »Hakas Force in Sudan«. ترأس هذا الوفد «دورون»، صاحب جدائل الشعر الشقراء والقلنسوة الصغيرة على رأسه، والذي اعتاد اقتباس مقولة الحاخام جورن «حصلت على تصريح من الحاخام بأكل الفريسة والسفر إلى السودان في السبت لأن الحديث يدور حول إنقاذ أرواح».! واستطاع الموساد تجنيد شبكتين سريتين من العملاء من الأصول الاثيوبية غالبيتهم من الفلاشا هما شبكة «أهارون» التي مارست عملها منذ العام 1980 الى العام 1984 وشبكة «يال» وعملت منذ العام 1984 الى العام 1989 . وتولى «أهارون تايتشو» وهو من الفلاشا رئاسة الشبكة الأولى وكان حينها في الثامنة والعشرين من عمره وبعدها غادر الى اسرائيل وعمل مدرب شباب «في كريات يام» أشرف أهارون على ترحيل الفلاشا من مخيماتهم سراً الى السواحل السودانية حيث كانت زوارق مطاطية في انتظارهم. اما ايال فقد كان هو من خلف أهارون وتمكن بالتعاون مع آخرين من ترتيب عمليات تسريب الفلاشا من المخيمات دون أن تلحظ ذلك أعين السلطات.. جوازات مزيفة بدت وحدة «بتسور» ترتب في الخفاء وتحت غطاء عال من السرية لترحيل الفلاشا، جرت عملية الخروج من السودان في البداية عبر الجو، على متن رحلات تجارية عادية من مطار الخرطوم، بجوازات سفر مزيفة. الا أن تلك الرحلات لم تستطع سوى اخراج أعداد قليلة للغاية ما دعا أفراد الوحدة للبحث عن وسيلة أخرى لتهجير أعداد كبيرة من الفلاشا. إذاً ما هي الخطوة التالية التي سلكها أفراد وحدة «بتسور» للخروج من المأزق القصة الكاملة لمرسى «عروسة»! قرر أفراد المجموعة البحث عن سبل اخرى أكثر أماناً وفاعلية وتضمن لهم نقل اعداد كبيرة.. اتجهت انظارهم الى السواحل السودانية لنقل المهاجرين عبر البحر. و للتغطية أقاموا في أوروبا شركة سياحية. استأجرت الشركة منتجعاً بالقرب من بورتسودان، أطلق عليه اسم منتجع «عروسة» الذي أصبح معروفاً فيما بعد، وقعت الشركة المزعومة عقداً مع حكومة السودان مطلع ثمانينات القرن الماضي لتنمية وتطوير قطاع الرياضة البحرية في البحر الأحمر. وتم تكليف «يهودا جيل» بالإنتهاء من كافة الإجراءات الإدارية المتعلقة بالمنتجع ، وكان «جيل» في حينه أحد ضباط جمع المعلومات بالموساد. اختاره رؤساؤه لحرفيته العالية، جاء جيل إلى الخرطوم ، وبحرفية شديدة حصل على كافة الموافقات من أجل افتتاح المنتجع قبل أن يكتشف أمره. كما أرسل الموساد من إسرائيل عملاءه بواجهات تغطية مختلفة، والتحقوا للعمل في المنتجع. سر داخل المستودع الوضع في مستودع المنتجع لم يبد عادياً.. رغم اكتظاظه بالعديد من بزات ومعدات الغطس وزعانف السباحة، وكل متطلبات نادي الغطس. الا أنه كان يوجد جهاز اتصال مموه، تم وضعه بصوره لا تلفت النظر وعن طريقه كان يتم الحفاظ على الاتصال مع قيادة الموساد في تل أبيب. و توافد العديد من السياح على المنتجع الذي ذاع صيته فيما يتعلق بالسياحة في الشرق. عمليات صغيرة ظل عملاء الموساد يخرجون في كل ليلة من المنتجع لتهريب يهود الفلاشا من مخيمات اللاجئين، كانوا يحتاجون في كل مرة الى قصة تغطية مختلفة. فقد حكوا للعاملين المحليين في المنتجع أنهم يقضون الليل مع المتطوعات السويديات بمستشفى الصليب الأحمر في مدينة مجاورة. أثارت الخروجات التي يقوم بها أصحاب المنتجع الشكوك في نفوس العاملين المحليين بالمنتجع، اشتبهوا في أن الحديث يجري حول أنشطة غير مشروعة، لكنهم فضلوا الصمت وغض الطرف طالما انهم يتقاضون رواتب عالية! بدت «اللجنة» عملها داخل المخيمات، وهي منظمة سرية من اليهود، معظمهم من الشباب كانت مهمتهم جمع الفلاشا وإرشادهم. وأثناء رصد أماكنهم، اتضح أنهم يخشون الكشف عن هويتهم خوفاً من رجال الشرطة السودانية. الا أن الفلاشا في هذه القرى انتابهم في بادئ الأمر بعض الخوف اذ لم يروا قط إنساناً أبيض، ورفضوا تصديق أن «دورون» يهودي جاء لتهجيرهم، حيث إنهم لم يعرفوا أن هناك يهوداً من أصحاب البشرة البيضاء. ويقول دورون «لم يصدقوا أنني يهودي إلا بعد أن انضممت لصلاتهم، صحيح أنني يهودي غريب، لكنني يهودي».! خطة التمويه من باب الحرص وخوفاً من الوشاية لم يعط رجال الموساد أية إنذارات مسبقة للفلاشا. و أمروهم بالاستعداد في أي وقت، وعندما تصدر الإشارة كان يتعين عليهم مغادرة خيامهم في سرية، وأخذ القليل من الأغراض وترك النار مشتعلة بغرض التمويه. وهكذا، هرب الفلاشا سراً من المخيمات وساروا ليلاً الى نقطة الالتقاء المتفق عليها في واد صغير بالمنطقة، حيث كان عملاء الموساد في انتظارهم هناك. عن طريق قافلة تتكون من أربع شاحنات قديمة، تحت قيادة قائد العملية دورون، نقل اللاجئون اليهود مئات الكيلومترات الى شاطئ البحر الأحمر. وفي الطريق اضطروا للتحايل لاجتياز حواجز ونقاط تفتيش. واصلت الشاحنات سيرها، وعند شاطئ البحر انتظرهم جنود الكوماندوز البحري، في قوارب مطاطية نقلتهم إلى سفينة سلاح البحرية الإسرائيلي «بات جاليم» التي كانت تنتظرهم في عرض البحر ليصلوا الى تل أبيب في غضون ثمان وأربعين ساعة!. في قبضة الشرطة وصيف مارس الحار من العام 1982 وفي إحدى العمليات، انطلقت مرة أخرى القافلة نحو البحر، إلا أنه بسبب مشاكل في الاتصال لم يصل إلى نقطة الالتقاء سوى شخص واحد. بدت خيبة الأمل واضحة على رجال الموساد، الا أن قائد العملية «دورون» قرر إكمال العملية. هنا، وقع حادث كاد أن يكشف العملية برمتها. فبعدما حملوا اليهود الإثيوبيين على متن زوارق مطاطية وشقوا طريقهم نحو سفينة «بت جاليم»، تعثر أحد القوارب وكان على متنه أربعة من رجال الموساد، و اصطدم بالصخور بالقرب من الشاطئ. وفجأة ، انقض جنود من شرطة البحرية السودانية كانوا مدججين ببنادق الكلاشينكوف المعمرة وهددوا في الحال بإطلاق النار على الإسرائيليين الأربعة. دورون، القائد، كان الأكثر تماسكاً أفاق من الصدمة وبدأ في الصياح بالإنجليزية موجهاً كلامه الى القائد السوداني، «ماذا تفعل؟. هل ستطلق النار على فوج سياحي؟. ألا ترى أننا ننظم رحلات غطس هنا؟. نحن من العاملين بوزارة السياحة و نجلب أفواج سياحية من شتى أنحاء العالم ليروا جمال السودان!، وأنت تريد إطلاق النار عليهم؟». . الضابط الذي كان يعرف الإنجليزية ، بدا حزيناً، واعتذر موضحاً أنه ظن أنهم مجموعة مهربين ولم يعرف أنهم سياح.بسبب هذا الحادث توصل المسؤولون في الموساد إلى نتيجة مفادها أن عملية الإنقاذ البحري قد استنفدت نفسها، وأنه يجب البحث عن وسيلة جديدة لتقليل تلك المخاطر.