إن أصدق وأوضح وأبين ما يمكن أن يوصف به الذي يجري في السودان الآن مما يسمى الحوار المجتمعي أنه حوار طرشان. وحوار الطرشان يكون عادة كلمات غير مفهومة يقال عنها «لقلقة» وهي عبارة عن حروف وأصوات وهواء يخرج من الفم ومعه رذاذ من اللعاب.. وعيون زائغة وغير مستقرة.. وهذا الكلام لا يفهم منه إلا القليل.. ويساعد الطرشان أنفسهم في حوارهم هذا بحركة سريعة من الأيدي لا يكاد الناظر يتابعها ولا يفهم منها شيئاً.. وقد يفهم كل واحد من الطرشان.. بل حتى من الذين يشهدون هذا الحوار من الأسوياء .. من إشارات الطرشان ما يتسنى له من المعاني.. حيث لا توجد وسيلة للمراجعة ولا للتأكد.. ولا للسؤال وسماع الإجابة.. فالطرشان لا يتكلمون.. ولا يسعمون.. ومن أوضح الأمثلة على ما قلنا أن الأخ الرئيس صدر مبادرته بما أسماه «الثوابت الوطنية».. والثوابت الوطنية عند عمر البشير هي خلاف ما عند الصادق المهدي، وهي عند أنصار السنة خلاف ما عند الشيوعيين.. بل إن من أدل على زعمنا بأن هذا الحوار حوار طرشان هو دخول الشيوعي واليساريين فيه.. ومعلوم ما هي الثوابت الوطنية عند هؤلاء!! لذلك تباينت المواقف منه عند مختلف القوى السياسية والذي لا يدركه أكبر الطرشان في هذا الحوار المجتمعي أعني الإنقاذ.. هو أنه ليس هناك قبة تجمع هؤلاء المتحاورين.. والقبة هي ما يسمونه الهوية.. ولذلك ظن كل واحد من هؤلاء أن الفرصة سانحة ومواتية لتحديد هوية للسودان تتماشى مع برنامج كل حزب وكل جماعة ولو كانت هناك قبة أو هوية مستقرة ومتفق عليها لهان الأمر ولسهل الحوار.. الإسلاميون جميعاً يقولون فيما بينهم إن هوية السودان هي الإسلام.. ويعجبون ممن ينكر ذلك.. ولكن الإسلاميين أنفسهم أيضاً يجعلون من أنفسهم فريقاً من الطرشان.. لأنهم يستخدمون ذات المفردات والمصطلحات والعبارات التي تدور وتدار بين المتحاورين مما يجعل الحوار حوار طرشان. فالإسلاميون يستخدمون مفردة الديموقراطية تماماً كما يستخدمها ويتغنى بها أهل اليسار والعلمانيون.. والإسلاميون إذا نقدتهم في هذا الأمر قالوا لك نحن نعني بالديموقراطية الشورى.. ألم أقل لكم إن الإشارات بل العبارات التي تتداول بين الطرشان يفهم منها كل واحد ما يشاء، والمبادرة للحوار المجتمعي تريد أن تجمع الناس وهي مبادرة حكومية.. والحكومة هي أقرت وقننت التفرق والتشتت عندما أقرت قانون التوالي في دستور 98 العلماني.. والحكومة وأحزابها تذم القبلية وتمتدح وتتغنى بالحزبية وحرية الرأي وحرية التنظيم السياسي «التحزب» والقرآن يذم الحزبية ويسخر منها ويقسم الناس إلى حزبين لا ثالث لهما حزب الرحمن وحزب الشيطان.. والقرآن يثني على القبيلة ويجعلها من أسس البناء المجتمعي فيقول الله سبحانه وتعالى «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم». ولكنه يسخر من الأحزاب ومن برامج الأحزاب فيقول «كل حزب بما لديهم فرحون» حتى لتخال أنه لا يتكلم إلا عن أحزاب الساحة السودانية.. وكل حزب بما لديهم فرحون.. رغم التباعد في الرأي والقناعات.. ورغم اختلاف المصادر والموارد. لكن الإنقاذ بالطبع وهي قائد هذه المسيرة السودانية القاصدة لها قدرة خارقة على جمع هؤلاء المتفرقين، فالإنقاذ لها الفضل دون من سبقها من عباقرة السياسة والحوار أنها هي التي أدخلت مصطلح الدغمسة في السياسة في السودان.. والدغمسة ليست شعاراً مرفوعاً للخداع ولا للغش ولا لتجيير المواقف.. ولكن الدغمسة في السودان وفي الإنقاذ بالذات منهج حكم.. ودستور وطن خاصة وأن الحوار المجتمعي يشتعل وينطلق والبلاد حتى كتابة هذه الأسطر ليس لها دستور، وبالتالي لا وجهة لها ولا اتجاه ولا هوية.. الله عليكم كيف تكون الدغمسة سوى هذه الطريقة وخصوم الإنقاذ مشاركون في الدغمسة.. والصادق المهدي معارض ومخالف.. وهو في باريس وابنه عبد الرحمن في القصر ومريم في ضيافة الشرطة.. والأحزاب التقليدية كالوطني والأمة.. بل وحتى الأحزاب والجماعات الإسلامية.. متفرقة ومنشقة على نفسها، ففصيل محالف للإنقاذ وفصيل معارض للإنقاذ.. حتى لجنة الحوار الوطني «7+7» لم تخل من الدغمسة سوى استخدامها للرقم «7»، ولعل ذلك كان محض صدفة.. وانظروا إلى خريطة الطريق التي اقترحتها والغايات والأهداف التي طرحتها في التأسيس الدستوري والمجتمعي في إطار توافقي بين السودانيين لإنشاء دولة راشدة ونظاماً سياسياً فاعلاً «هكذا النمو وإلا فلا»، والتعاون بين السودانيين والتوافق على تشريعات دستورية قانونية تكفل الحريات والحقوق والعدالة «أما شريعة الرحمن فليست مطروحة أصلاً.. مع أن طرحها لو طرحت إهانة لها في هذا الجو».. بجانب التوافق على التشريعات والإجراءات الضرورية لقيام انتخابات عادلة نزيهة.. وإلى غد لمزيد من حوار الطرشان.