مواصلة للقراءة الهادفة لاستخلاص العبرة والدروس المستفادة من الجدل الجاري حول المدني والعسكري على الصعيد السياسي في أنموذجه السوداني، وذلك في إطار الاستمرار في الاحتفاء بالذكرى السنوية الستين للقوات المسلحة الوطنية في السودان، تجدر الإشارة لما جرى في هذا الصدد وبهذا الخصوص بين الحزب الشيوعي والزعيم الوطني الراحل الرئيس الأسبق جعفر نمري، وذلك على النحو الذي أورده الأخير في كتابه الذي صدر في مطلع ثمانينات القرن الميلادي الماضي عن المكتب المصري الحديث للنشر بالعاصمة المصرية القاهرة تحت عنوان »النهج الإسلامي لماذا؟«. تحت عنوان »طريق الأشواك« وفي سياق الإشارة للمنطلقات الدافعة لما جرى لدى الإقدام على القيام بالاستيلاء على سدة مقاليد الحكم والسلطة عبر انقلاب عسكري ثوري تولى قيادته عام 1969م، ذكر الراحل نميري في الفصل الثاني من كتابه المشار إليه أن القرار الذي أدى لذلك كان هو أن تنحاز القوات المسلحة للشعب. وقد انتخبت النخبة التي قررت ذلك ثمانية من بينها ليكونوا واجهة لها. وكان معهم من أعرف ممن عمل تحت قيادتي المباشرة، ومنهم من لا أستطيع ادعاء اكتمال المعرفة به. ويضيف الراحل نميري: تجمعنا جميعاً لتحقيق أهداف لا خلاف عليها، ولم تكن بيننا صراعات في الفكر أو هكذا بدت الأمور حتى تكشفت. وفي ذكرى مولد الهدى التقيت بمن صور اللقاء وكأنه صدفة، لكنه صار حتى بعدها إنما صدفة صاغتها مطاردة، وهو زميل دراسة وصديق حميم رغم اختلاف الفكر والرأي والعقيدة. وكنت أعرف موقعه في صفوف الحزب الشيوعي السوداني. وكان يعرف موقفي من معتقدات الشيوعية والشيوعيين، فقد كان يعرف أنني لجأت الى القضاء خصماً لمن ادعى في صحيفة يصدرها، أنني أتعاطف مع الفكر الشيوعي وذلك أيام المد الشيوعي الذي رافق وتلى ثورة أكتوبر 1964 لبعض الوقت. ويضيف الراحل نميري: إن اختلاف الرأي لم يفسد فينا للود قضية، وأقبلت عليه بشوق الصديق، ثم صارحني بهدف اللقاء الذي لم تصوغه الصدفة، وأشار إلى أن هناك ما ينبغي الحديث حوله، وأنني مطلوب كطرف في حوار عاجل لا يحتمل التأجيل. وتفكرت والساعات تجري موازناً بين القبول والرفض، وكان تقديري أن اللقاء الذي لم تصغه الصدف، له علاقة مع ما جرى تدبيره، وأن الحوار المطلوب حوله، ولو رفضت لتأكد الشك، ولو قبلت فإنه لا فارق بين الغنيمة والخسران. ولكن كيف ومن سرب لهم سر تجمعنا الخطير؟ ويشير الراحل نميري إلى أن اللقاء تمّ مع قيادي في الحزب الشيوعي السوداني تولى إلى جانب موقعه الشعبي في الداخل، مواقع عالمية في الخارج. ويضيف أن الحوار بدأ بسؤال يتسم بطابع اليقين حول تحركنا المرتقب ثم تحفظاته عليه. وقد استمعت لخطابه الذي تداخلت فيه تعبيرات لم أفهمها، ثم فاجأته بسؤال حول مسؤوليتي بالنسبة لكل ما قال؟ بل وتساءلت عن معلوماته حول تحرك وشيك، ومن هم أطرافه، وما هي أبعاده. وأكدت له بعد معاناة أنه آن لي أن استريح، وأنعم بالرتبة التي وصلت إليها، فتظاهر بالاقتناع وكأنه نادم على ما أفصح عنه، وأدركت عن يقين بأن ثغرة ما في تجمعنا قد تسرب منها النبأ العظيم. ويضيف الراحل نميري إن ما تبقى من ساعات لم يكن كافياً للمحاسبة أو المراجهة، فقد كان اليقين أنهم يعرفون، وكان المطلوب ألا تمكنهم تلك المعرفة من تسديد طعنة في الظهر.. ولكن كيف؟.. لم يكن هناك غير كبيرهم. إليه توجهت، زائراً على غير موعد، وعلى غير انتظار. ألجمته المفاجأة فاستثمرتها على الفور... أكدت له أنني أعلم أنه يعلم، وأن ما يعلمه صحيح مع فارق التوقيت، لأن ما يتوقع حدوثه قد وقع فعلاً وأننا أحكمنا السيطرة، وأن الإعلان عما جرى لن يتمهل إلا ساعات، وأنه بشخصه في بيته وبكل إمكانيات الاتصال تحت السيطرة الكاملة، وأني لا أحذر ولا أنذر، لكني أقول إن الحساب سيكون عسيراً لو حاول، وأن الحرج ولا أقول الخطر ينتظره لو تخطى أبواب منزله حتى صباح الغد الوشيك!! وخرجت. ويضيف الراحل نميري: «كان مطلوب أن أراجع الأسماء.. فمن أباح لنفسه خطيئة الاتصال بهؤلاء، ومن فيهم أذاع السر، ولماذا؟.. كانوا ثمانية.. خمسة أكاد أجزم ببراءتهم، وثلاثة حولهم بعض الشكوك، وفيهم ذلك الذي اتصل بالشيوعيين وبرر الاتصال بنظرية «المغفل النافع» المعكوسة!!