المدرسة السريالية التي جاءت بعد الحرب العالمية الأولى وأعلنت فلسفتها كانت شعرية في البداية حيث انضم إليها عدد من الشعراء الفرنسيين أمثال أندريه بريتون وبول إيلوار وأرجون، وانضم إليها الرسام التشكيلي سلفادور دالي. لقد كانت السريالية تعد نفسها ابنة المحنة النفسية التي خرجت من الحرب وعندما صادف ذلك دراسة فرويد أبي الطب النفسي عام 1925 في تفسيره للأحلام وجدت المدرسة السريالية إطاراً علمياً تدور في داخله. وينادي السرياليون أن العقل الباطن هو سيد الموقف لأن العقل الواعي هو الذي أشعل الحرب العالمية الأولى التي قتلت أكثر من خمسين مليون شخص. وعليه فإنهم يرفضون المنطق ويقيمون في أشعارهم ولوحاتهم علاقات أشبه بالأحلام لا رابط منطقي بينها. وتلفت حولي ووجدت أن الشعب السوداني بهذه المقاييس هو من أكثر الشعوب سريالية. وخاصة في مجال اختراع التعابيرالعجيبة. فمثلاً من من الشعوب من يستطيع أن «يتكلم ساكت» أو «يقوم يقعد» أو يحاول أن يحلب الثور بالرغم من أنه قد جاءه توضيح صريح بأن الذي يهم بحلبه هو ثور. أو «موبايل بتاع فنيلتك؟» أو«عيون واللا أقوم جاري».. إلخ إلخ. كل تلك التعابير ليس هناك منطق لغوي يسندها. على أن أعجبها ما تفوه به جدنا السوداني الأكبر الذي وقف يتفرج على العالم إسحاق نيوتن وهو يجلس تحت شجرة تفاح فوقعت على نافوخه تفاحة أيقظته من غفوة لذيدة، وعندها صاح جد السودانيين بأعلى صوته: أمك.. وخرج نيوتن بنظرية الجاذبية التي أصبحت تفسر كل شيء بينما خرج جد السودانيين ب«أمك» التي تحتاج لتفسير. منذ ذلك اليوم صار السوداني عندما يشاهد شخصاً يتعثر ويقع يصيح: أمك.. وعندما يثور حمار أو حصان الكارو ويلقي بالبضاعة في قارعة الطريق يصيح السوداني: أمك.. وعندما يكعبل الدفاع هدافاً ويسقط أمام المرمى يصيح السوداني: أمك.. ولكني وفي عام 1967 وفي مدينة بيرمنجهام البريطانية عندما تزحلقت على الجليد أختنا زينب زوجة أخينا الأستاذ التجاني عبد الغفار وكسرت رجلها وبعد أسبوع تزحلق الأستاذ نفسه وكسر رجله لم أسمع بريطانياً يصيح: - Your Mother أمك. ولكننا نحن السودانيين جئنا بهذه الكلمة السريالية التي تحتاج لتفسير. كان هناك خطيب يلقي خطاباً من نوع الخطابات التي تصنف بأنها جماهيرية، وكان هناك عدد من الإخوة المشتغلين باللغة العربية، الذين يحملون همومها ويتحسرون على ضياع ملامحها وقوانين نحوها وصرفها وقد أحزنهم أن حروف الجر التي كانت تجر أي شيء قد تعطلت وأصبحت لا تقوى على جر نملة من نمل سليمان عليه السلام. أما المضاف والمضاف إليه من لدن تسجيل شركات الاتصالات الذي يأتيك بصوت أنثوي يقول: «نأسف جميع «الموظفون مشغولون» إلى صالة المغادرة بمطار الخرطوم التي كتبت على لوحتها وبإصرار «صالة المغادرون». فلم يكن أمام هؤلاء الأساتذة إلا أن يستكينوا لما حدث للغة العربية ويحتسبوا عند الله كل حروف الجر والمضاف والمضاف إليه والصفة والموصوف والتمييز و«غد غامت الصلاة.. غد غامت الصلاة» وغيرها، ويسألون الله أن ينزلها على ألسنة خير من ألسنة أهلها ومكرفونات خير من مكرفونات الإذاعة والتلفزيون. ولكن جاءهم الفرج من حيث لا يدرون. فقد بدأ الخطيب قائلاً: «الإخوة الكرام.. نرحب بكل «القادمون» من الولايات المختلفة.. وهنا صاح أحد الأساتذة: أمك.. واستمر الخطيب قائلاً: إن «القادمون» هم يحملون آمال وتطلعات ولاياتهم.. وعند سماع كلمة «القادمون» صاحوا جميعاً: أمك.. وشكلوا كورساً يردد: أمك.. كلما أخطأ متحدث في اللغة.. وعدوا ذلك من أضعف الإيمان. اللهم رد غربة اللغة العربية في ديارنا فإن ظلت كذلك ستموت قريباً. غريبة الوجه واليد واللسان.