يبدو أن كرم وحفاوة بلاد المكادا، على السودان لم يكن حاتمياً على مستوى النيل الأزرق الذي ينبع من «بحيرة بحر دار» حيث ملتقى مياه الهضبة من كل جانب ثم الزحف شمالاً إلى وادي النيل، بل يتحدى نيل بحر دار نيل آخر لا يقل عنه عنفاً وعنفواناً، ممثل في تلك الكتل البشرية القادمة إلى السودان مشرق كل شمس من بلاد المكادا ومنبع النيل الأزرق. وفي تقرير غير رسمي وإن كان مثل هذا النوع من التقارير غير محايدة قد تكون متحايلة في أحايين كثيرة، والأدهى أن يتخللها سوء نية، وخبث طوية ولكن لا مناص من الاستئناس به واصطحاب فقراته في حالة الغياب للتقارير الرسمية. ونجتزي منه الآتي، إن معابر الحمرة واللقدي والقلابات والقرقرف وهي معابر برية رسمية يستقبل في اليوم الواحد من خمسمائة إلى ستمائة، يزيدون أو ينقصون حسب العوامل الطبيعية، كظرف الخريف وزمن الفيضان عند انسداد الطرق وتعثر المركبات. وقد يصلوا إلى نسب تفوق الخيال ومعدلات عالية في فصول الشتاء والصيف هذه المعدلات تدخل السودان رسمياً تحمل الأوراق الثبوتية من باب وآتوا البيوت من أبوابها. السودان نفر والرأس بمليونين: أما من يدخلون السودان عن طريق التهريب والسودان نفر والرأس بمليونين بالقديم هؤلاء لا يعرف عددهم ولا الرقم الحقيقي إلا علام الغيوب، الذي يعلم السر وأخفى اللَّه لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، جل جلاله، حيث كم هائل من السودانيين، قبائل وأسر شهيرة وبيوتات معروفة جعلوا من أنفسهم فأوست السودان وتجردوا من كل أواصر الوطنية، وأدنى أسباب حب البلد، ونشطوا في سبيل تهريب هذا السيل الهادر إلى السودان، وتشكلت كيانات اقتصادية جديدة ونمت اقطاعيات طفيلية، وفتحت بيوتاً وعاشت أسر وارتزقت على حساب هذا الوطن الجريح، وعقوق ذوي القربى أشد من وقع الحسام المهند. وأنا أعد في هذا التحقيق بمعاونة مصدر فضّل حجب اسمه مدني بكثير من معلوماته فجأة قفزت إلى ذهني هجرة مشايخنا الشناقيط، آخر القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين وكانت بحق هجرات كثيفة إلى أرض السودان حيث ذكر الأستاذ حسن نجيلة في ذكرياته في بادية الكبابيش. إنه من المألوف كل يوم استقبال شنقيطي واحد أو اثنين أو جماعة قدموا لتوهم من بلاد شنقيط «مورنانيا» بعد سفر طويل ميمين شطر وجوههم بيت الزعيم البدوي الأسطوري الشيخ علي التوم ناظر الكبابيش حتى يمنحهم مالاً ونقوداً ليعينهم على سيرهم إلى بيت اللَّه الحرام واكمال مشوار الحج والشيخ رحمه اللَّه لا يبخل عليهم بالمال، بعد أن يخبروه أنهم يبتهلون له بالدعاء في مكةالمكرمة وبالطبع في رحلة العودة من الحج يطيب لهم المقام في السودان لأسباب كثيرة لا نرى مسوغاً لذكرها هنا. وعلى هذا النسق تشكلت أسر شنقيطية سودانية كثيرة في كل مدن وحواضر السودان وقراه الكبيرة بل وبعض القرى الصغيرة جداً بل وصل الشناقيط المتسودنين إلى مناصب رفيعة في الدولة كمحمد الشنقيطي ومن بيوتاتهم في بقاع السودان، آل الشريف الشنقيطي بحوش أبكر بالجزيرة وما زالت دارهم دار علم وفتوى واستنارة وكذلك آل الشنقيطي بالقضارف والمفازة غرب أول من حملوا الدعوة الإسلامية، ومذهب مالك، وتدريس مختصر خليل إلى هناك، وفي شرق جنوب الجزيرة آل الشريف محمد عبد القادر الرحمنو، وآل الشريف محمد موسى الشنقيطي وفي سنار أحمد الشنقيطي مؤسس خلاوي مبروكة الشهيرة ولا تكاد تخلو قرية أو مدينة خصوصاً في كردفان أو دارفور من بيوتات الشناقطة الشهيرة، هذه نتف وشذرات عن الرحلات الشنقيطية، إلى الديار السودانية مطلع القرن العشرين. خطوط عريضة بين الهجرتين سواد الشناقيط الأعظم، كان دعاة، وحملت ثقافة دينية، كثيفة، أسهمت في الإشعاع الثقافي لمجتمع ما بعد المهدية في السودان، حيث أوقدوا نور القرآن، وعلموا العقيدة التي هي نوعاً ما أو برزخاً بين العقيدة الأشعرية، والعقيدة السلفية الموجودة اليوم مع نكهة قليلة من الماتردية، وفي الفقه علموا مختصر خليل بشرح مواهب الجليل للحطابي، وفي المواريث علموا الرحبية، وفي اللغة العربية مقدمة الاجرومية، ولا شك بمقاييس ذلك الزمن تكن هذه ثورة ثقافية ضخمة، واشعاع فكري خلاب. ولم يقدم النازحون من شرق إفريقيا في مطلع الألفية الثالثة، غير الأمراض والأوبئة، كالإيدز والسيلان، والزهري وفيروس الكبد الوبائي، والكظار، واستنزاف ثروات الناس، نظير أعمال تافهة من استخدموهم يقوم بها وزيادة ولكن قاتل اللَّه الغفلة، هي التي تأتي من جهتها الشعوب والأوطان، وحتى لا نجرد القوم من كل فضيلة، فإنهم منحونا العمالة الرخيصة، والدليخاء، الانجيري، والزقني وحلاقة أمهريت، وعيد القديسة الإيطالية «أماري» التي يقدسها هؤلاء، شيء غريب جداً، إن السادة الشناقيط توزعوا بنسب مقدرة كأنها خطة مدروسة في كل مدن، وقرى السودان. وإن هؤلاء المهاجرين، ناخت ركائبهم بعاصمة البلاد صرة البلاد، حتى كادت بعض الأحياء العاصمية تتغير خرائطها الدمغرافية كلياً، وأضحى وجود السوداني في هذه الأحياء مثار تندر وسخرية من فرق الكوميديا. وإن الشناقيط إخوة لنا في الدين، وقد اندمجوا في نسيجنا الاجتماعي حتى نسوا كل ما يربطهم بالوطن الأم فأصبحوا سودانيين مائة في المائة. وأما الأحباش ليس على ديننا، ولم ولن يندمجوا فينا إلا بقدر ما يلهفوا دوانقنا، وقراريطنا وملاليننا عفواً الكلمة الأخيرة ليس ملاييننا. من المحرر: ليت هذه الكلمة المتقضية تجد أذناً مصغبة من مسؤولي هذا البلد الجريح، ويعوا حقيقة الخطر الذي حدق بهذا الوطن الجريح الذي تكسرت فيه النصال على النصال حسب قول المتنبي، ويضعوا من التشريعات، الرادعة، والقوانين الكفيلة بردع ضعاف النفس من جعلوا من أنفسهم فاوست السودان، وباعوا أنفسهم للشيطان في سبيل الارتزاق، وفتح البيوت، وتربية الأسر، بأموال الترهيب الحرام إنهم يأكلون في بطونهم ناراً ويصلون سعيراً.