يوماً بعد يوم يخطو قطار الحوار الوطني في السودان، خُطى حثيثة إلى الأمام، منطلقاً نحو غاياته التي أعلنها رئيس الجمهورية المشير عمر البشير في خطاب (الوثبة) الشهير في يناير 2014م، الذي حدّد فيه القضايا التي سيناقشها الحوار الوطني الشامل، والأهداف التي يسعى تحقيقها. ورغم وجود عقبات هنا وهناك، إلا أن الإرادة السياسية لدى الأحزاب المشاركة في الحوار جعلت بالإمكان تجاوزها. هذه الأحزاب شكلت لاحقاً آلية (7+7)، التي توصلت في التاسع من أغسطس الماضى، إلى (خارطة الطريق) التي فُصّلت فيها آليات ومؤسسات الحوار الوطني، وأهدافها ومداها، وصولاً إلى مراحل ما يتم فيها تنفيذ ما سيتم التوصل إليه داخل آليات ومؤسسات الحوار الوطني، من ثم تلا إعلان خارطة الطريق تشكيل ست لجان باشرت عملها على الفور. حوار شامل على أن الدفعة الأكبر التي تلقاها قطار الحوار الوطني، كانت بصدور بيان الاجتماع الأخير لمجلس السلم والأمن بالاتحاد الأفريقي 16 سبتمبر الجاري، غداة المداولات التي تلت التقرير الذي قدمه رئيس الآلية الأفريقية رفيعة المستوى، والتي تولت زمام الوساطة بين الأطراف السودانية، وبين دولتي السودان وجنوب السودان ويرأسها ثامبو أمبيكي، وفق لمنصوص القرار (2046) والصادر عن مجلس الأمن الدولى بشأن القضايا العالقة بين الدولتين، منذ ما قبل الانفصال في يوليو 2011م كما شدّد البيان الختامي الصادر عن المجلس (السلم الافريقي) مؤخراً، على معالجة قضية المنطقتين (جنوب كردفان والنيل الأزرق). على أن الحوار الوطني القائم الآن بالسودان، يعدُ الوسيلة المناسبة لحل شامل لقضايا البلاد، عبر التفاوض السلمي، وبعيداً عن الحلول العسكرية التي تورطت فيها حركات التمرد. مشتركات التوافق ولاقى البيان الختامي الصادر عن مجلس السلم والأمن الأفريقي، ترحيباً كبيراً من كل الأطراف بالداخل والخارج، فعلى صعيد الداخل، أجمعت كل الأحزاب على تأييد وقبول الأفكار العامة الواردة في البيان، حيث سبق صدور ذلك البيان صدور إعلان مبادئ (من ثماني نقاط) والذي وُقع بين لجنة الاتصال والحركات بالخارج المنبثقة عن الحوار الوطني، والتي قادها كل من د. غازي صلاح الدين رئيس «حركة الإصلاح الآن»، والوزير أحمد سعد عمر القيادي بالإتحاد الديمقراطي الأصل، وتضمن إعلان المبادئ بعض المشتركات التي مهّدت لالتقاء الأطراف السودانية على مبدأ الحوار. وعلى صعيد الخارج، سارعت الأممالمتحدة والدول الكبرى وبعض المنظمات الدولية الأخرى (وكذلك ما تعرف بمجموعة دول الترويكا الثلاث الولاياتالمتحدة، والنرويج، وبريطانيا) إلى تأييد بيان الاتحاد الأفريقي بخصوص الحوار الوطني، وأعطى إشارات التأييد المتواترة تلك دفعة وروح جديدتين، لآليات ولجان الحوار الوطني، حيث لم يعد ذلك «الحوار» مجرد مناورة سياسية أو شرَكٌ سياسي ينصبه هذا الحزب أو ذاك لخصومه، وإنما «آلية وطنية» تحظى بالشرعية الإقليمية والدولية، لا سيما بعد أن عقد مجلس الأمن الدولي جلسة مغلقة قدّم خلالها ثامبو أمبيكي تقريراً ضافياً، حول جهوده لإحلال السلام والاستقرار في السودان، وأيّد المجلس وبشدة تلك الخطوات، ودعا كل الأطراف إلى الانخراط في الحوار الوطني. وكان البيان الختامي لمجلس السلم والأمن الأفريقي، قد دعا إلى خطوات لبناء الثقة بين الأطراف تمهيداً لعملية إلحاق فصائل التمرد (الجبهة الثورية) في الحوار الوطني، كما دعا الأطراف إلى وقف الحملات الإعلامية المتبادلة، وطالبها بوقف العدائيات بولايات النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور. كما ناشد البيان التجمع الدولي إلى تقديم حزمة مساعدات اقتصادية للسودان تكون بمثابة حوافز اقتصادية لإنجاح الحوار الوطني على أن تشمل تلك (الحزمة) رفع العقوبات وإعفاء الديون الخارجية...الخ، وبحسب إشارات «البيان» فإن لقاءات ستتم بين الوساطة من جهة والأطراف السودانيّة من جهة أخرى، لمناقشة سبل تطوير فكرة الحوار الوطني الشامل، وبحث الحلول التي يمكن أن يجري المتفاوض عليها. * عزلة الرافضين ويرى مراقبون أن دعم واعتراف المؤسسات الدولية والإقليمية (مجلس الأمن الدولي، الأممالمتحدة، الاتحاد الأفريقي..) فضلاً عن كل الدول المؤثرة في السياسة الدولية اليوم بالحوار الوطني كآلية وحيدة تشكل منبراً مناسباً لحل القضايا السودانية بالداخل، ينطوي على دلالات مهمة، حيث لم يعد بالإمكان التمترس خلف موقف رفض الانخراط في الحوار الوطني، كما هو موقف بعض الأحزاب المعارضة بالداخل، وهو موقف الحركات المتمردة بالخارج، والتي ترفض الحوار الوطني ما لم يتوفر على ضمانات ويلبي اشتراطات لا حصر لها بذلتها إلى الرأي العام، أو أن يكون الحوار برعاية دولية وبالخارج في الوقت ذاته. وفي نفس السياق، لا يستبعد المراقبون أن تخضع بعض الأطراف الرافضة للحوار لموجة الضغوط التي ولّدها الدعم الإقليمي والدولي للحوار الوطني الجاري كي تنخرط فيه، ولكنهم لا يستبعدون أن تشذ بعض الأطراف التي لديها مصلحة حقيقية في استمرار الحرب، وتتلاقى في هذا الموقف مع بعض مجموعات الضغط التي وضعت هدف إسقاط النظام، عبر العمل المسلح واستمرار الضغوط الخارجية. دوافع المساندة ويقف الدعم الدولي والإقليمي لفكرة الحوار الوطني بالداخل على دوافع منها، أن المجتمع الدولي والإقليمي بات على قناعة تامة بأن الحرب لن تحقق نتائج على الأرض، خاصة لاولئك الذين يراهنون عليها في السودان؛ ثانياً: المجتمع الدولي لم تعد قضايا السودان من قائمة اهتماماته لا سيما بعد التطور الإستراتيجي الخطير في الشرق الأوسط ببروز الدولة الإسلامية العراق والشام وإعلانها خلافة إسلامية، حيث باتت تشكل تهديداً لآبار النفط والأنظمة المتحالفة مع الغرب، ثالثاً: باتت الوساطة الأفريقية غاية القناعة بأن المتمردين لا يملكون حلاً بل ويتكسبون من استمرار الحرب، وبالتالي لاختبار مدى جدية تلك الأطراف لا بد من تقديم طرح عميق وجاد، كالحوار الوطني، رابعاً: إدراك القادة الأفارقة وبعض الدول الكبرى بأن حركات التمرد باتت تشكل بيئة مساعدة على بروز تحديات أمنية جديدة، وبالتالي فإن استمرار الحروب غير المبررة، باتت أمراً مرفوضاً إقليمياً ودولياً. سيناريوهات المستقبل ويرى مرقبون أن مشاهد وسيناريوهات مستقبل عملية الحوار الوطني التي دخلت مراحل متقدمة بعد الدعم الدولي والإقليمي، الذي أعقب بيان مجلس السلم والأمن الأفريقي، لا تخرج عن السيناريوهات التالية: السيناريو الأول، قيام الحوار الوطني الشامل بمشاركة جميع الأطراف، أحزاب حكومة الوحدة الوطنية، وعلى رأسها المؤتمر الوطني، وتحالف قوى الإجماع الوطني، والحركات الموقعة على اتفاقية السلام مع الحكومة، وكذلك متمردي الجبهة الثورية، وإمكانية التوصل إلى اتفاق نهائي وشامل بضمانات من كل الأطراف بالتمسك بمخرجات ذلك الحوار. والسناريو الثاني أن يقوم الحوار الوطني ولكن من دون مشاركة جميع الأطراف كأن يتخلف هذا الطرف أو ذاك بحجج مختلفة، على النحو الذي شهدته البلاد في موقف الأحزاب من دعوة رئيس الجمهورية للحوار الوطني الشامل. وأما السيناريو الثالث فهو أن يواجه الحوار الوطني مزالق وعقبات، من قبل الدوائر التي ترى أن قيام الحوار الوطني الشامل وفق رؤية الآلية الأفريقية رفيعة المستوى، قد لا يحقق لها أهدافها، كما لا يضمن لها سقف الطموحات والمواقف التي بنتها تلك الدوائر على دعم الخارج والتحالف معه، أو استمرار الأزمات في البلاد معلقة وفي ذلك تكمن مصلحتها.