في الوقت الذي يتجدد فيه القتال ويعلو صوت البندقية في دولة جنوب السودان عقب تفجر الأوضاع في بانتيو بولاية الوحدة، رفضت الحكومة في الجنوب بيان وساطة الإيقاد الذي أصدرته أمس الأول، بينما ظلت أعين المراقبين تنظر مجريات التفاوض بين الحكومة والمعارضة في مدينة أروشا بتنزانيا الأسبوع المنصرم.. وهنا ربما بدا اختيار الحركة الشعبية «أروشا» لجمع الفرقاء في الحكومة والمعارضة على طاولة المفاوضات ينافي الصدفة المحضة، فأروشا تعني الكثير بالنسبة للحركة الشعبية، وربما تعدى ذلك حدود إرثها الفكري الذي خطة مؤسسها قرنق نفسه. ويعيد ذلك إلى الأذهان إعلان «أروشا» التأريخي الذي تم خلال ستينيات القرن الماضي عندما جمع دعاة الاشتراكية في إفريقيا بحضور الزعيم الاشتراكي جوليوس نيريري. اختار الفرقاء في الحركة الشعبية فتح الصندوق القديم في تنزانيا لإعادة ما أفسدته أطماع السلطة وبهدف توحيد صفها من جديد، إذ تعتبر تنزانيا أهم المحطات التي شكلت فكر الحركة الشعبية، فقد أكمل مؤسسها تعليمه الثانوي هناك وبدأ فيها تعليمه الجامعي، والتقى فيها بشخصيات فكرية إفريقية لعبت دوراً رئيساً في تشكيل ملامح وفكر الرجل وحركته فيما بعد. وكانت تنزانيا في تلك الفترة تمور بحركات التحرر الوطني ومعقلاً لحركات «بان افريكانزم»، التقى فيها قرنق بشخصيات إفريقية مهمة من بينها البروفيسور «وولتر روني» من الكاريبي وكان يعتبر من كبار دعاة الوحدة الإفريقية وهو مؤلف الكتاب الشهير«How Europe Underdeveloped Africa». كيف ساهمت أوربا في تخلف إفريقيا. وجاء روني إلى إفريقيا بعد أن فرغ من دراسته الجامعية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، لذا كان أستاذاً لقرنق وصديقاً له في نفس الوقت وكونا معاً الجبهة الثورية الإفريقية في تنزانيا أو ما كان يسمى «نادي دار السلام»، وكان عضواً في هذا النادي كل من يوري موسفيني وأرياكا تيقايا صديق يوري موسفيني الذي شارك معه وأصبح لاحقاً وزيراً في حكومته. وضم نادي دارالسلام أعضاء من موزمبيق وأنغولا، واتفقوا على تكوين حركات سياسية، فكون موسفيني الِ ARM وكون قرنق SPLM وكون صديقهما وولتر روني حزب العمال الثوري في نيوكين، واغتيل الرجل عندما ترشح للانتخابات في الكاريبي. وكانت دار السلام خلال ستينيات القرن الماضي معقل الاشتراكية في إفريقيا التي أسست على مبادئ الاعتماد الذاتي والديمقراطية الجماعية، وقد تضمن إعلان أروشا في ذلك الوقت تلك الشعارات. وربما تبحث الحركة الشعبية الآن عن حافز قديم في أروشا يدعم مشروع مصالحة لأطراف النزاع داخل جسمها الذي أرهقته الانقسامات ومزقت ثوبه بعدما طلبت من الرئيس التنزاني جاكايا كيكويتي المساهمة في إنهاء النزاع بين قياداتها، بعدما اشتعل من داخل المكتب السياسي للحزب الحاكم في الجنوب. وبينما شكك مراقبون في أن تسفر لقاءات أورشا عن حلول تضع حداً للأزمة بدولة جنوب السودان، ظلت أعين المواطنين هناك تنظر بعين التفاؤل، إلا أن الاشتباكات اندلعت مرة أخرى بين قوات مشار وسلفا كير في الميدان. وفي الوقت الذي كان فيه الشارع الجنوبي يتطلع وينتظر بترقب مخرجات أروشا، ظل يخشى مصير مفاوضات السلام التي قادتها وساطة الإيقاد منذ يناير الماضي بأديس أبابا وفشلت في إنهاء الصراع بين الحكومة والمعارضة في التوصل الى صيغة لتقسيم السلطة في دولة الجنوب، ووضع حد للأزمة فيه. رغم أن الطرفين وقعا اتفاق سلام شامل قضى حينها بوقف كل أشكال الأعمال العدائية، وأقر نشر قوات دولية بجانب إفساح المجال لانسياب المساعدات الإنسانية، إلا ان الاتفاق لم يدم طويلاً وعاد الطرفان للاقتتال من جديد، وبدأ الطرفان تبادل الاتهامات بشان خرقه. وشككت الحكومة في دور الوساطة وقالت على لسان الناطق الرسمي باسمها، إنها أهدرت وقتاً طويلاً فيما يخص عملية السلام لكن دون جدوى. وعادت المواجهات إلى الميدان قبل أن يجف مداد أروشا، عندما ظهرت العديد من النقاط الخلافية على طاولت التفاوض، من بينها رفض الحكومة تشكيل حكومة انتقالية خلال فترة شهر بجانب رفضها فصل قواتها عن الجيش الشعبي خلال الفترة الانتقالية التي حددتها الوساطة ب«30» شهراً، وتمسكت المعارضة في أن يكون رئيس الوزراء رئيس الحكومة، وأن يكون رئيس الجمهورية رئيس الدولة ومشرفاً على قطاع الحكومة إلا أن مراقبين اشاروا إلى أن أكبر النقاط الخلافية تمثلت في تمسك كير بطرحه تكون المعارضة المسلحة بقيادة مشار حزباً سياسياً منفصلاً بينما يحتفظ هو برئاسة الحركة الشعبية ويبقى على كرسي السلطة سنتين أخرتين ريثما تجرى انتخابات عامة، الأمر الذي رفضه مشار. واشتعل الميدان مرة أخرى وهنا اتهمت الحكومة المعارضة تبنيها خيار الحرب والحل العسكري وعلقت على لسان وزير الإعلام مكوي ان حكومته لن ترد في الوقت الراهن على الهجوم الذي شنته قوات مشار بولاية الوحدة حفاظاً على عملية المفاوضات التي لم تبد فيها الحركة أكثر جدية للتوصل الى حلول ترضي كل الأطراف حسب المعارضة. وتوعدت الحكومة بالرد حال تكرار المعارضة هجومها، وهددت بتلقين المعارضة درساً قاسياً وملاحقتها حال فرارها إلى إحدى دول الجوار.