بمناسبة الانهيار الذي كان متوقعاً في جولة المفاوضات الأخيرة بين وفدي الحكومة والحركة في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، أجدها فرصة لاجترار ما في ذاكرة منتصف الستين من العمر إن كان في «الكأس باق» كما تقول إحدى أغنيات المطرب الكبير عبد الكريم الكابلي «كسلا» التي صاغها الراحل توفيق صالح جبريل. ووجدت أن في الذاكرة الكثير مما يستحق أن يكون مادة لهذا اليوم من خلال تغطيتي لكل جولات المفاوضات لصحيفتي «الشرق الأوسط» و«الحياة» اللندنية و«إذاعة لندن». بدأت علاقتي في تغطية مفاوضات الحكومة والحركة، أو فلنقل الحركة الشعبية «الآن»، أول مرة أكلف بتغطية مفاوضات كان في نوفمبر العام 1988م من جريدة «الشرق الأوسط» إلى أديس أبابا فيما يسمى اتفاق «الميرغني قرنق»، وأظنها من المرات القليلة أو ربما إحدى اثنتين التي انتهت بتوقيع اتفاق وحظيت باهتمام واسع من المجتمع الدولي وضغط متواصل حتى تم الاتفاق.. ورغم أنه لم يحظ بقبول القوى السياسية الفاعلة في الداخل خاصة حزب الأمة الحاكم، والجبهة الإسلامية القومية، إلا أنه اتفاق يبدو مقبولاً بالمقارنة مع اتفاق نيفاشا الذي استمرت جولاته لتسعة أشهر. سبحان الله، آخر جولة مفاوضات قمت بتغطيتها كان اتفاق نيفاشا الذي انتهى بتوقيع معاهدة السلام الشامل، وحظيت ببعض القبول أكثر من اتفاق «الميرغني قرنق» رغم أنها نصت على تقرير المصير، وقيام جيشين وبنكين مركزيين وفتح الباب لمشكلة أخرى في المنطقتين، ولكنها مثل الاتفاق الأول «الميرغني قرنق» حظيت باهتمام وضغط دولي وبالتالي ترحيب عالمي هائل. ما بين اتفاق «الميرغني قرنق» عام 1988م واتفاق نيفاشا 2005م، كانت هناك العديد بل العشرات من الجولات، لم تتوج أي منها بالتوقيع سوى واحدة كانت في أبوجا. وحدث ضغط لتوقيع مذكرة اتفاق وتفاهم كانت عبارة عن أجندة لجولة قادمة.. ووقع نيابة عن الحكومة السيد محمد الأمين خليفة، ونيابة عن الحركة الدكتور لام أكول أجاوين. وأذكر أنني كنت قريباً من المنصة وحينما حاول الرجلان إدخال يديهما لإخراج قلميهما، سارعت بتقديم قلم جميل كنت أحمله وتم به التوقيع. ولا يزال السيد محمد الأمين خليفة يسألني ويداعبني إن كنت محتفظاً بذاك القلم. مما في الذاكرة عن بعض الجولات، تلك التي كانت في العام 1994م، وهما جولتان الأولى في أبوجا والثانية في نيروبي وقضينا في العاصمة النيجيرية «17» يوماً في اللت والعجن، وأبلغنا بأن اتفاقاً يتوقع في اليوم التالي، ولكن في نفس الليلة حضر الدكتور جون قرنق واجتمع بوفده وجاءني الخبر من زميل مراسل (BBC) الإنجليزي بأن الاتفاق لن يوقع غداً، ولكن ستتواصل الجلسات. وأبلغت الإخوة في وفد الحكومة وغضبوا، وقال أخونا الشهيد موسى علي سليمان إنه سيغادر غداً إلى نيروبي، فقلت له سأرافقك وربما نخرج بمادة من هناك تعوضنا الأيام والساعات المملة في أبوجا. وصلنا نيروبي، وكانت الجولة في اليوم التالي وكان عيد الأضحى على الأبواب. ومساءً التقينا برئيس وفد الحكومة الدكتور غازي صلاح الدين وحكيت له الملل الذي جاء بنا من أبوجا. وسألته متمنياً ألا تستغرق الجولة أكثر من أسبوع لأنني (ناوي الحج).. ودخل الوفدان القاعة وأخرجوا الإعلاميين بعد دقائق، ولكن بعد خمس دقائق خرج الوفدان وقد تعالت الأصوات. فاقتربنا من رئيس وفد الحركة الأخ دينق ألور فقال: «ناس الحكومة غير جادين». وسألنا الدكتور غازي صلاح الدين فقال: «اختلفنا على الأجندة ورفضنا وضع تقرير المصير وقلنا السودان قرر مصيره في 1/1/1956م، وقالوا فصل الدين عن الدولة، فقلنا لهم هذا العنوان عدلناه من الجولات الماضية ليكون علاقة الدين بالدولة بدلاً من الفصل فرفضوا، وانتهت الجولة». والتفت نحوي الدكتور غازي قائلاً: «يللا أن ذاتي ماشي الحج». وللذكريات بقية إن شاء الله.