في العام «2010»، أطلق نائب الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان ياسر عرمان تصريحات مغلفة في منتدى الصادق المهدي، حذر فيها الحكومة من مغبة عدم إجراء تغيير جذري في المركز خوفاً من «أن يرث جنوباً جديداًَ»، وبرغم أن الحديث حمل في طياته ملامح بعض الأشياء، إلا أن كثيراً من المعطيات التي طرحت على الساحة السياسية آنذاك كانت تشير إلى صناعة «جنوب» جديد وقصة «نضال» أخرى على جسد السودان المثخن بالصراعات والخلافات السياسية والفكرية التي أوردت البلاد إلى كثير من المنعطفات الخطيرة. وارتضت الحكومة أو الأحزاب أو المعارضة أو غيرها من القوميات السودانية في أوقات مختلفة، صنع «الجنوب الجديد» على حافة التلاقي والسلام المنشود الذي ظل السودان يبحث عنه منذ أكثر من «80» عاماً، وعلى غرار قصة جنوب السودان ذاك الوطن الآخر الذي غرد بعيداً وانكفأ على نفسه، تسير الخطوات على ذات الوتيرة لنصب أوتار جنوب آخر. بيد أن هذه المرة ليست كسابقتها، إنما جنوب هناك.. في النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور تمهيداً لفصلها عن بقية السودان، وصناعة ثلاث دول جديدة وفق ما يفسره بعض المحللين والمتابعين للشأن السوداني. بداية النهايات اختتمت حركة العدل والمساواة بداية النهايات لقصة صناعة الجنوب الجديد، والتفاوض بشأنها عبر بيان أمس أوضحت فيه أنها تطالب بمسار تفاوضي مواز للمفاوضات مع الحركة الشعبية قطاع الشمال بأديس أبابا. وقال المتحدث الرسمي باسم الحركة أحمد تقد للصحافيين بالعاصمة الإثيوبية، إن الحركة ترفض المفاوضات على أساس وثيقة الدوحة للسلام، في وقت وقعت فيه الحركة بقيادة قائدها السابق خليل إبراهيم اتفاقاً سابقاًَ بالدوحة لم يكتب له النجاح. ورأت العدل والمساواة قبل أيام من بدء اجتماعات فريق الوساطة الإفريقي بقيادة أمبيكي بأديس أبابا معها وحركة تحرير السودان بقيادة مناوي، أن أي اتفاق سيكون في خط قرار «456» يعني وقف العدائيات، ويمهد الطريق لإدراج الجماعات المتمردة في الحوار الوطني ووصول المساعدات الإنسانية، وأضاف أنهم يريدون الاتفاق الإطاري الذي يأتون للتفاوض بشأنه تكون في وئام مع فكرة مسارين في عملية السلام واحد، على النحو المنصوص عليه في خطة السلام التي اعتمدها مجلس السلم والأمن بالاتحاد الإفريقي في سبتمبر الماضي. وأردف «نريد خلق مسار جديد في أديس أبابا بالتوازي مع المسار الحالي للحركة الشعبية قطاع الشمال، ونحن نعلم أن هناك تحديات، سيكون هناك صراع شديد على جدول الأعمال، وهذا قد يؤدي إلى زيادة الفجوة بين مواقف الطرفين. ولكن هذا أمر طبيعي في المفاوضات، ونحن يمكن أن نصل إلى تفاهمات». سيناريو العدائيات أهم الاعتبارات التي يجب الالتزام بها في عملية التفاوض، التعامل العادل بين الأطراف المعنية، والتعامل الشريف بين الأطراف المعنية، فيما تخضع المراحل الأساسية للتفاوض إلى مرحلة التحليل ومرحلة التخطيط ومرحلة المناقشات «التفاوض الفعلي» وهذا بالفعل ما تفقده الأطراف عامة في عملية التفاوض ويشكل الملمح الحقيقي للوفد الحكومي المفاوض «الضائع» بتشكيله شبه الخاضع للمجاملات والموازنات، صنعت الحركة الشعبية رواية على ورق التفاوض مع وفد غندور مطالبة ما سمته وقف العدائيات، وهي نظرية تفاوضية بسيطة استبقت بها الحركة حزمة قرارات أممية وإفريقية بشأن أزمة المنطقتين، وطرحت الحركة الشعبية تلك الرواية لاستقطاب نظرات التعاطف معها، فالناظر لكلمة العدائيات توحي إليه من خلال الجملة أن الطرف الضعيف أو المعتدى عليه هو من يطالب بوقف العدائيات وكأنما «هو لا يقوم بها»، أمام مطالبة الحكومة وقف إطلاق النار، وهي جملة في نظر مصدري القرارات الأممية والإفريقية تعتبر ضمن الإقرار بصناعة الأزمة، وما يعضد القول أن قطاع الشمال يصر ويلح على كلمة وقف العدائيات، فيما تهرول الحكومة إلى المطالبة بوقف إطلاق النار، وشتان ما بين الجملتين في نظر الوسطاء وصانعي القرار. ومع مقارنة بسيطة بين المفاوضات بين الحكومة وقطاع الشمال وأطراف النزاع في جنوب السودان، توضح المقارنة هذه أن طرفي النزاع في الجنوب لم يطالب أحد منهما بوقف العدائيات، إنما يطالبان بشكل واضح بوقف إطلاق النار ونشر مراقبين. وهو بالفعل ما أقره الاتحاد الإفريقي وقام بنشر مراقبين بعدد من المناطق سابقاً، ورفضت جوبا بخبرة مفاوضيها مطالبة جناح مشار إدراج كلمة وقف العدائيات ضمن أجندة التفاوض. فشل سابع للمرة السابعة تفشل الأطراف المختلفة المفاوضة بشأن أزمة المنطقتين في الوصول لأدنى درجات التفاوض والاتفاق على أجندة محددة لحل الأزمة والوصول لسلام، ورغم الحديث هنا وهناك أن هناك اتفاقاً تم في عدد من الأجندة إلا أن الحقيقة الواضحة من خلال التمسك ببدايات المقدمات التفاوضية بين الطرفين هي الأساس لتقييم العملية التفاوضية الأخيرة وسابقاتها، ولم يجد الوسيط أمبيكي، وفق مجريات كثيرة تدور حوله وعليه وبين يديه ومن خلفه، خياراً غير تأجيل الجولة السابعة والاستعاضة عنها بجولة تفاوضية جديدة بدأت الأسئلة منذ الآن تدور حولها وحول نجاحها، ووفق ما ذكره سابقاً المتحدث باسم حركة العدل والمساواة تقد ومطالبته بمسار مواز للتفاوض، تبدو الصورة الآن مكتملة ولا تستدعي بعضاً من التفصيل حتى تكتمل الصورة المغلفة بصناعة التفاوض في إطار جنوب جديد لرغبات في قطاع الشمال والحركات المسلحة، وهو الحلف الجديد الذي يتطلب التعامل معه تفاوضياً بطريقة علمية لإيجاد مخرج جيد للأزمتين. كثرة التباعد دائماً ما تستبق الحركة الشعبية قطاع الشمال وبعض الحركات المسلحة عقب فترة وجيزة، تسريب الأنباء عن تباعد المواقف التفاوضية، وهي حيلة تفاوضية تسعى من خلالها الأطراف لتليين موقف المفاوض الآخر، وتسعى بذلك الأطراف إلى كسب أرضية خصبة لتمرير بعض من مواقفها المتشددة وقبول الطرف الآخر بها دونما استبعاد مواقف تراها أصيلة ومتشددة في نظر الطرف الآخر يحاول قبولها تماماً وفق الآيدلوجيات الخاصة بالطرف الآخر، وهذه الحيلة باتت حيلة بائنة في الجولات الأخيرة للحكومة والقطاع. وفي المقابل يعتقد المراقبون أن تباعد المواقف التفاوضية هو دليل جازم بافتقار الثقة بين الطرفين وعدم إيجاد التقارب النفسي بين الطرفين. تحالف تفاوضي في نوفمبر «2011»، شكلت الحركة الشعبية قطاع الشمال تحالفاً ضم ثلاث حركات دارفورية سمي لاحقاً ذاك التحالف «الجبهة الثورية»، نص على إسقاط الحكومة بالقوة، وسارت الأمور العسكرية عقب ذلك بين تحالف الجبهة الثورية سوياً على المستوى الميداني، ومختلف على مسار التفاوض مع الحكومة، مما طرح كثيراً من الأسئلة عن مستقبل تلك المفاوضات، وهل يمكن أن يشكل التحالف مطالبات لاحقاً بمسارات تفاوضية موازية؟ وهذا ما بدأ يتحقق اليوم من خلال الجولة الأخيرة للتفاوض بين الحكومة وقطاع الشمال عقب اصطحاب القطاع لأحد مؤسسي تحالف الجبهة الثورية، مني أركو مناوي، ليظهر بجلاء أن مستقبل التفاوض سيكون في مسارات موازية بحسب خطط حلف الجبهة الثورية وبسند قرارات أممية، وغادرت أولى جلسات التفاوض بالشكل الجديد في نظر التحالف الثوري بعد رفض الحكومة التفاوض مع القطاع خارج قضايا المنطقتين، بينما طالب القطاع في أول التفاوض في حلف الجنوب الجديد بالتفاوض بشكل شامل في أزمات البلاد وغيرها من المطالبات بشأن المنطقتين ودارفور. انهيار متتالٍ في أبريل «2013» انهارت الجولة التفاوضية بين الحكومة وقطاع الشمال لذات الأسباب السابقة، وانهارت كذلك جولة فبراير الماضي لنفس الأسباب، وعلقها الوسيط لمدة عشرة أيام قبل استئنافها في مارس دون التمكن من تقريب وجهات النظر. وتشهد كل جولة تفاوضية توسيع مقدر من القطاع للعملية وإدخال عناصر تفاوضية وموضوعات جديدة للجولة لرسم شكل التفاوض المطلوب «التحالف الثوري» مع الحكومي. ويرى المتابعون للمفاوضات مخرج طوارئ للقطاع يتخذه دائماً للمغادرة حال الاقتراب من الوصول لاتفاق والتوقيع عليه، وهو تسريب أخبار عن ضغوط يتعرض لها قطاع الشمال بعدم التوقيع بمعزل عن الحلفاء الآخرين وهم حركات دارفور. ويبدأ الرفض تباعاً بإقحام بعض المطالبات التي تراها الحكومة خطاً أحمر مثل الإقرار وقبول إعلان باريس. قراءة المواقف بقراءة متعددة الاتجاهات لموقف قطاع الشمال وحركات دارفور، تلوح ظاهراً مقدمات تحليلية مهمة تطابق بعض تحليلات الخبراء المختصين في إدارة الأزمات وفض النزاعات، وهي أن قطاع الشمال حالما يرضى حصر التفاوض في المنطقتين التي يقاتل عليها وموقفه العسكري هناك، سوف يضعف من موقفه التفاوضي، وبموازاة ذلك يستطيع القطاع وفق القراءات أن يتمركز خلف موقف تفاوضي جيد حال تحالفه مع الحركات الدارفورية لخلق مسار تفاوضي مواز يسير جنباً إلى جنب التفاوض مع الحكومة، ويمضي وفق ترتيبات محكمة مع الحركات في طرح الأجندة التفاوضية تجاه القضايا المختلفة مما يحقق نصراً ثنائياً في التفاوض، ووسيلة ضغط على الحكومة من خلال حصارها في مساري تفاوض مختلفين في الأشخاص والمكان، متطابقين في الأجندة والموضوعات. فشل متوقع يتوقع الأغلبية أن تفشل الاجتماعات بين الوساطة الإفريقية والحكومة والحركات المسلحة في اجتماعها المزمع انعقاده في الأيام المقبلة بالعاصمة الإثيوبية. ويرى مراقبون أن العملية التفاوضية في الأساس تدار بأخطاء واضحة من الآلية الإفريقية التي تطرح حلولاً توفيقية وفق مقترحات يضعها الطرفان، تغلب عليها الأجندة السياسية الخاصة، مما يغيب العنصر الأساس للتفاوض، وهو التفاوض تحت طائلة القرارات المعروفة والمتفق عليها من الأطراف المختلفة. ويعتقد آخرون أن التفاوض الآن مع الأطراف المتنازعة مع الحكومة تحت مظلة الوساطة لن يحقق شيئاً، بينما يجزم البعض بأن الخطوة ناحية التفاوض مع الحركات المسلحة خطوة جيدة في سبيل صنع حلقة اتصال جديدة مع الحركات التي تتغيب عن الحضور للدوحة للتفاوض والنقاش.