لقد حوى الأدب المقارن العديد من الحقائق على شاكلة أن قوام الأدب المقارن ونظامه هو الموضوعات والصلات الفنية التي تربط بين آداب الشعوب، وبرهن الدكتور أن الحدود الفاصلة بين تلك الآداب هي اللغات، فالكاتب أو الشاعر إذا كتب كلاهما بالعربية عددنا أدبه عربياً مهما كان جنسه البشري الذي انحدر منه، فلغات الآداب هي ما يعتد به الأدب المقارن في دراسة التأثير والتأثر المتبادلين بينها، وأن الجدوى من الأدب المقارن هو الكشف عن مصادر التيارات الفنية والفكرية للأدب القومي، وكل أدب قومي يلتقي حتماً في عصور نهضاته بالآداب العالمية، ويتعاون معها في توجيه الوعي الإنساني أو القومي، ويكمل وينهض بهذا الالتقاء. وذهب الدكتور إلى أن مناهج الأدب المقارن ومجالات بحثه مستقلة عن مناهج الأدب والنقد، لأنه يستلزم ثقافة خاصة بها يستطاع التعمق في مواطن تلاقي الآداب العالمية، وأكد أن أهمية الأدب المقارن لا تقف أهميته عند حدود دراسة التيارات الفكرية والأجناس الأدبية، والقضايا الإنسانية في الفن، بل لأنه يكشف عن جوانب تأثر الكتاب في الأدب القومي بالآداب العالمية، وما أغزر جوانب هذا التأثر، وما أعمق معناها، لدى كبار الكتاب في كل دولة، ونبه إلى أن ميدان الأدب المقارن لا يقتصر على دراسة الاستعارات الصريحة، وانتقال الأفكار والموضوعات والنماذج الأدبية للأشخاص من أدب إلى آخر، بل يشمل أيضاً دراسة نوع التأثير الذي اصطبغ به الكاتب في لغته التي يكتب بها بعد أن استفاد من آداب أخرى، وفند الدكتور هلال في سفره القيِّم أن تأثر كاتب ما في دولة ما بكاتب آخر في دولة أخرى دلالة على ضعف غميزته، وهشاشة حشاشته، ذاكراً أنه لن يضير كاتباً مهما بلغ شأوه وعبقريته، ومهما سما في كتاباته من أن يتأثر بانتاج الآخرين، فلكل فكرة ذات قيمة في العالم المتمدن جذورها في تاريخ الفكر الإنساني الذي هو ميراث الناس عامة، وتراث ذوي المواهب منهم بصفة خاصة. يقول بول فاليري في كتابه choses vues »أدعى إلى إبراز أصالة الكاتب وشخصيته من أن يتغذى بآراء الأخرين، فما الليث إلا عدة خراف مهضومة«. وعلى ضوء ذلك نستطيع أن نؤكد بيقين لا يخالطه ريب، أو ينازعه شك، أن الأدب المقارن لا يقتصر دوره على عرض الحقائق، بل يشرحها شرحاً مدعماً بالبراهين والنصوص من الآداب التي يدرسها. والأدب المقارن يتناول الصلات العامة بين الآداب، ولكن لا غنى له من النفوذ إلى جوانب كل أدب ليتبين فيها ما هو قومي وما هو دخيل، وليبين جدوى اللقاح الأجنبي في إخصاب الأدب القومي وتكثير ثمراته. إذن الأدب المقارن يرسم سير الآداب في علاقاتها بعضها ببعض، ويشرح خطة ذلك السير، ويعضد من إذكاء الحيوية بينها، ويهدي إلى تفاهم الشعوب وتقاربها في تراثها الفكري، كما أنه يساعد الآداب القومية في الخروج على عزلتها. ونجد أن كتاب الدكتور محمد غنيمي هلال »في الأدب المقارن« يتألف في محتواه من محورين أساسيين، هما تاريخ الأدب المقارن، وميادين البحث فيه، ويحتوي كل اطار أو محور على عدة مباحث فرعية، حيث يشمل المحور الأول محورين فرعيين: أولهما مفهوم الأدب المقارن الذي تبلور واستقرَّ له عبر رحلته التاريخية في أوربا، والثاني عدة الباحث في الأدب المقارن. أما المحور العام الثاني فقد اشتمل على محور اضافي هو مناهج البحث في كل ميدان من ميادين البحث في الأدب المقارن. وجدير بالذكر أن المحور الثاني قد استحوذ على القدر الأكبر من اهتمام المؤلف وصفحات الكتاب، حيث احتل هذا المحور في جميع طبعات الكتاب ما يزيد على ثلاثة أرباع صفحات الكتاب، ونجد أن المؤلف وسد الله ضريحه الجنة قد أوفى الحديث عن عالمية الأدب وعواملها، واستفاض في الأجناس الأدبية وتحدث بإسهاب عن المواقف الأدبية والنماذج البشرية، وأتى بالأمثلة والشواهد على تأثير الكُتاب في أدب ما على الآداب الأخرى، كما أنه درس المصادر، وأماط اللثام عن الآداب القومية للبلاد والشعوب الأخرى، لينهي سفره الذي لا غنى عنه لدراس الأدب بخاتمة عن الأدب المقارن والأدب العام، مؤكداً أن كل أدب لا يستطيع أن يعيش بمعزل عما سواه من الأدب دون أن يصيبه الوهن والذبول، ومن أن أجمل نواحي الأدب القومي قد تعتمد في مصدرها على لقاح أجنبي يساعد على ازدهار تلك النواحي في الأدب القومي، هذا إلى أن من فروع الأدب المقارن ما يساعد على فهم الأمة لنفسها، برؤيتها صورتها في آداب غيرها، وتلك دروس وعظات بالغات في تربية الشعب، وتبوئه مكانته بين الشعوب الأخرى. الدكتور محمد غنيمي هلال الذي استفاض ذكره على الألسنة، قبل أن تهصره يد الردى، وتطويه الغبراء، سطر مدونات تلاقفتها الأيدي، والتهمتها العيون، وأصغت إليها الأفئدة، لأنها ترفع عن العقل آصار الجاهلية، وتدخل على النفس قبساً من نور المعرفة، وتلقي في روع قارئها أن الإنسان لا يستطيع أن يشيح بوجهه عن آداب العالم، ولا يصم أذنيه عن دويها الذي تصطك منه الأسماع، فمن بلادة الحس، وخمود العاطفة، أن ينزوي كل شعب على ذاته، ويتقوقع كل أدب على نفسه، وحينها تغشى الأرض غيوم الجهل الداكنة، ويهيم في أصقاعها بوار العصبية والسخيمة الذي يلفظ كل خير، ويجلب كل شر.