الإرث الثقافي والحضاري للإنسانية لم يكن مقدراً له ان يتصل ويتواصل عبر الحقب المختلفة لو لم يجد من يرصده ويعبر عنه بدقة وشفافية ومن ثم يحفظه للأجيال اللاحقة. وهو ما ظل قدر المبدعين في كافة مجالات المعرفة على مر الأزمان ومنذ بدء الخليقة. لقد ظل الكثيرون يتابعون خلال الأيام القليلة الماضية الفعالية الثانية لمهرجان البركل الثقافي السياحي، وهي حدث ضخم وكبير بما يمثله من رمزية تاريخية تسلط الضوء على حضارة تحمل ملامح موغلة في القدم تناهز الثلاثمائة عام قبل الميلاد، تمددت في وحول خاصرة النيل الشمالية متلفعة بالرمال وشامخة شموخ البركل الجبل الذي ظل ولقرون طويلة يمثل مركزاً دينياً يتم فيه تعميد الملوك السودانيين السمر الذين حكموا منذ القرن الثامن قبل الميلاد تلك المنطقة، وامتد سلطانهم عبر السودان ومصر حتى حدود الرافدين وفلسطين، ودفنوا في ثرى البركل في مقابر الكرو وداخل أهرامات نوري والبركل التي بقيت شاخصة تشهد بعظم الحضارة النوبية والمروية في المنطقة وعظمة إنسانها الذي شادها. يقع جبل البركل على الضفة اليمنى للنيل في الولاية الشمالية، على بعد «40» كيلومتراً أسفل الشلال الرابع، حيث يشمخ سد مروي حالياً. وشهد المكان قيام مملكة نبتة وكانت عاصمتها في جبل البركل، وذلك منذ العام الثامن قبل الميلاد، وفي العام الرابع بعد الميلاد تم تحويل العاصمة من جبل البركل الى البجراوية، ولكن ظل جبل البركل يحتفظ بقدسيته وبرمزيته، وبقي مكاناً لتعميد وتنصيب الملوك لقرون طويلة. وظلت المنطقة مكاناً لتلاقح سكاني يمثل كثيراً من قبائل السودان تعايشوا في سلام كبير وانتجوا تمازجاً ثقافياً صنع حضارة راسخة الجذور. إن الاحتفاء بالحضارة النوبية والمروية التي شيدت عظمة البركل واهميته، من خلال المهرجان الذي بدأ تنظيمه في العام الماضي وتتابع نظمه هذا العام، لهو احتفاء بثقافة وحضارة سودانية صميمة، شكلت علامات فارقة في تاريخ السودان، وصنعت تحولاً كبيراً شهد لإنسانها بالنبوغ والتفوق على كل المستويات. وحوى مهرجانها العام الذي انطلق في السادس من الشهر الجاري، الكثير من المعارض التراثية والفلكلورية والأنشطة الرياضية والثقافية، وذلك بمشاركة واسعة داخلية وخارجية. وهو برغم أنه قد افتقد الى التنظيم الدقيق، وتغافل جهلاً أو عمداً عن إبراز العديد من الأسماء التي تمثل امتداداً لإرث المنطقة وثقافتها، إلا انه مازال يمثل عملاً مشرفاً وبداية تصب في الاتجاه الصحيح لإعادة إحياء التراث والاهتمام به بعيداً عن أية مؤثرات أخرى. إن المهرجان في حد ذاته كان بمثابة إطلاق ضوء أخضر لفتح أعين وآذان العالم على ثقافتنا وحضارتنا الضاربة في القدم، وهو دعوة لإعادة اكتشاف الذات، كما هو دعوة بنفس القدر لإعادة اكتشاف الآخر لنا سواء في الغرب أو الشرق. إن من يجهل نفسه وتاريخه كان حقاً على الآخرين أن يجهلوه. والمهرجانات كهذا المهرجان هي حقاً بمثابة تسليط ضوء كاشف على حضارة ضاربة في القدم ومازالت ممتدة حتى اليوم. وبالرغم من أن مثل هذه الفعاليات ينتظرها العالم بلهفة كبيرة، إلا أن الأداء الإعلامي سواء من الصحف أو الإعلام المرئي والمسموع الذي صاحب المهرجان كان دون المستوى على أكثر من وجه، فعدا احتفالية الافتتاح والختام لم تحظ الفعاليات بتغطية جيدة تعكس ما تم فيه. وهكذا غاب الكثير من تفاصيل المهرجان وبرامجه المصاحبة عن المتابع الذي لم يحظ بحضور الفعالية على ارضها، وذلك رغم أن المهرجان كان له أن يكون أحد مشروعات التنمية الثقافية، وأحد أهم مؤشرات التلاقح والحوار المجتمعي، ويعمل على تعزيز الهوية والانتماء. لقد صادف قيام المهرجان حدث عالمي تعلق بشخصية عالمية استطاعت أن تخلد اسم بلادها وتجعله في مصاف الدول ذات الإرث الحضاري المؤثر، وذلك بعد أن ظل مرتبطاً في الأذهان بتجارة المخدرات والكارتيلات والعصابات السياسية، حيث اعتمد الكونجرس الكولومبي في الأيام القليلات الماضيات وتحديداً يوم الخميس الماضي، مشروع قانون يصدر البنك المركزي بموجبه أوراقاً نقدية من الفئات الكبيرة تحمل صورة الروائي الكولومبي «جابرييل غارسيا ماركيز»، أشهر أدباء كولومبيا الذي توفي في أبريل الماضي، بعد أن استطاع أن يخلد تاريخ بلده ويوثق لتفاصيل الحياة في مجتمعه من خلال رواياته الكثيرة ومؤلفاته التي ترجم بعضها لأكثر من «35» لغة حية، وفاقت بعض مبيعاتها «25» مليون نسخة.. لقد وثق جابرييل لمجتمعه وعلى مدى حقب متفاوتة، وظلت كتاباته تجذب الملايين بما تمتلئ به من قصص الحب والحنين التي تتكئ على خلفيات السياسة والاقتصاد، وهي في كل ذلك يتداخل واقعها السردي مع فانتازيا وأساطير تقوي حبكتها وتضفي عليها ما اصطلح على تسميته أدبياً الواقع السحري، وقد استطاع أن يعكس في كل كتاباته حياة وصراعات وخيبات قارته الأم، متشبعاً في ذلك بثقافة الكاريبي الغنية بكل ما هو مثير وغامض. ولم يقف تكريم الروائي الكبير على هذا الأمر، بل شمل القانون إعادة إحياء تراث الكاتب وذلك بتحويل بيته إلى متحف، وأيضاً تأسيس مركز ثقافي يحمل اسمه، ووضع جداريات تحمل لوحات له ولأعماله في أنحاء مختلفة من مسقط رأسه «أراكاتا» في كولومبيا، إضافة الى برنامج منح دراسية لطلاب الصحافة والعلوم السينمائية. إن الحدثين يؤطران لمبدأ مهم جداً، وهو ضرورة الالتفات لإرثنا الثقافي والحضاري من أجل أن نكتشف هويتنا الحقيقية، ومن أجل أن يعيد الآخر اكتشافنا كما نحن بدون أدنى زيف أو التباس.