طوى الرجل آخر صفحة له كسفير للسودان بجمهورية مصر باندلاع ثورة الربيع العربي من ميدان التحرير، وقد كانت الثورة حدًا فاصلاً بين فترتين في العلاقة بين السودان ومصر، الأولى لا يتمنى السودانيون بأي حال من الأحوال عودتها وإن كانت العلاقة في تلك الفترة في ظاهرها تبدو طيبة فإن كثيرًا من الخبث لا يمكن إنكاره ترعرع في أحشائها، أما الفترة الثانية فمليئة بالتفاؤل الذي سيطر على الأجواء ودشن بزيارة البشير لمصر كأول رئيس عربي يزورها بعد سقوط مبارك، ومن ثم فتح الرجل صحة جديدة في سفر التكليف عندما اختارته القيادة سفيرًا للسودان بإثيوبيا التي يتحدث البعض عن توترات خفية في العلاقة بينها وبين السودان بسبب ملفات قديمة رغم المودة التي يفوح أريجها في سماء البلدين.. سفارتا الرجل تشيان بأن وراءهما ملفات لا يصلح لها غيره مرتبطة بخلفيته العسكرية والأمنية أنجز بعضها في مصر وسيُنجز الأخرى في إثيوبيا.. الفريق ركن عبد الرحمن سر الختم فتحنا معه تلك الملفات في السطور التالية: كيف تقرأ لنا مصر قبل وبعد سقوط مبارك؟ مصر قبل سقوط مبارك وخلال «30» عامًا كانت مستقرة في إطار حكم شمولي ولكن في أحشاء النظام كانت هناك حركة سياسية مضادة تدريجية غير واضحة بحكم الهيمنة الأمنية والسياسية، وقد تسارعت الخطى في اتجاه التململ السياسي خلال السنوات الخمس الأخيرة إلى أن وُلدت الثورة، ولكن يمكن القول إنه في فترة الاستقرار السياسي تمت تنمية اقتصادية كبيرة وكانت في ظل إستقرار سياسي على حساب قيم ومبادئ تختلف عن قيم ومبادئ الشعب المصري، وهذا التعرض أشعل الثورة رغم الإنجازات، مصر كانت موالية للغرب ولسياسات اسرائيل بل لعبت دور الشريك لها في تبني السياسات الأمريكية في المنطقة، الثورة المصرية جاءت في أعقاب التونسية وتأثرت بها، فالدوافع مشتركة، الكبت السياسي والهيمنة الأمنية إلى جانب احتكار السلط والإتجاه لتوريث جمال مبارك بتزوير انتخابات 2005 وتغيير بعض مواد الدستور لتلائم تلك الأفكار مستقبلاً.. الآن مصر تعاني اضطرابًا سياسيًا سببه الأول شعارات الثورة التي ترفض الهيمنة والموالاة للغرب الذي يحاول الآن احتواء الثورة وتشتيت كتل الشعب المصري فظهرت تيارات سياسية عديدة حتى داخل شباب الثورة الذي يتشرخ الآن وهذا طبيعي في ظل حريات وأجواء ديموقراطية وهذا أسفر عن الاضطراب السياسي الذي نراه الآن ولكن هذه بداية لميلاد مصر الجديدة التي عرفناها قائدة للأمة الإسلامية والعربية. البعض يرى أن علاقات مصر مع أمريكا وإسرائيل قبل سقوط النظام هي ذاتها بعد سقوطه.. هل أنت متفائل بعلاقة مختلفة مع السودان خاصة فيما يتعلق بحلايب أم أن ذلك مرتبط بوصول الإسلاميين للسلطة؟ فلننظر بموضوعية للمرحلة التي تمر بها مصر سياسيًا، الآن هي تمر بمرحلة انتقالية تقودها مؤسسات انتقالية فالمجلس العسكري الذي يمثل السلطة العليا سياسيًا هو مجلس مؤقت ولايته محددة حددتها الثورة المصرية بمطالب من ميدان التحرير بمنفستو محدد من المجلس العسكري الالنتقالي ومطلوب منه أن ينظم الحياة السياسية في هذه المرحلة ويهيئ البلاد لانتخابات رئاسية وبرلمانية ثم يسلم السلطة في الفترة المحددة بنهاية العام لحكومة منتخبة ورئيس منتخب وليس من صلاحياته غير ذلك، وفي هذه المرحلة سيتم بناء الدستور والمؤسسات التشريعية، فهذا المجلس مقيد بال 14 نقطة التي حُدِّدت في التحرير، والآن التحرير يصحح كل يوم نقطة، ما تم تنفيذه وما لم ينفَّذ والشعب المصري يتابع تنفيذ برامج الثورة من خلال ضغوطه الجماهيرية في الميدان على المجلس العسكري حتى يضمن أن ما نادت به الثورة تم تنفيذه تمامًا وهذا لا يعطي المجلس العسكري أي فرصة للخروج عن هذه الولاية التي حددها الشعب المصري في ميدان التحرير، لذلك القضايا الكبرى لن تحسمها إلا مؤسسات تشريعية منتخبة، أما القرارات الإستراتيجية كقضية حلايب أو التكامل أو الوحدة فلن تنجزها هذه الهيئات السياسية التي تحكم الآن، فالمجلس العسكري صاحب السيادة لن نطلب منه أن يحقِّق قرارات نعلم أنها تحتاج لمؤسسة منتخبة ومسنودة برأي الشعب المصري، الجهاز التنفيذي أو الحكومة المعينة هي أيضًا غير مسنودة وليست وليدة أيضًا لمؤسسة منتخبة وبالتالي ليست لديها أيضًا صلاحية لقرارات إستراتيجية تحتاج إلى تشريعات من مؤسسة منتخبة وبالتالي لابد أن نستغل هذه الفترة لأشياء معينة أولها أن نعرِّف الشعب المصري عبر مؤسساته السياسية بالشعب السوداني لأن النظام السابق كان يحجب الصورة الحقيقية له وللنظام الحاكم عنه وعن الرأي العام الإقليمي والدولي لما لمبارك من علاقات مع أمريكا وإسرائيل والغرب وتشويه الصورة بأنه نظام إسلامي إرهابي وبالتالي لا بد أن نستغل هذه المرحلة لنصحح الصورة للشعب المصري والعالم عبر مؤسسات الشعب المصري نفسه بعلاقات مباشرة مع كل أحزاب مصر دون تمييز بين يمين أو يسار، ثانيًا لا بد أن نعطي صورة حقيقية عن السودان الجديد بعد الانفصال فالشعب المصري ومؤسساته لا يعرفون كثيرًا عن السودان ولابد أن نوضح أن السودان بعد الانفصال لم يفقد الكثير من المقومات الإسترانيجية المعروفة عنه، فالسودان مازال بقواه الكامنة ومساحاته الشاسعة، وأنا أستخدم الأرقام استخدامًا إيجابيًا فإذا كانت مساحة السودان قبل الانفصال مليون ميل مربع فإن مساحته الآن 2 مليون كلم مربع، وهذه المساحة فيها كل مدخرات السودان الطبيعية من بترول وذهب ومياه.. صحيح فقدنا 28% ولكن ال 72 أكثر، فقدنا 8 ملايين من السكان ونحن الآن 32 مليونًا، وليطمئن العالم أننا مازلنا سلة غذاء العالم، وهذا عمل مؤسسات، وعندما تأتي مؤسسات منتخبة لحكم مصر نكون قد أسسنا علاقاتنا معها وأزلنا الخوف من المصنوع من السودان في العهد الماضي، دون توقعات بسقف عال حتى لا نُصدم فمصر لم تأت بعد، وقد تأسست الآن قناعة لدى الشعبين الآن أن قضية حلايب يجب أن تحل سلميًا وأنها الآن نواة لتكامل سيؤدي لوحدة. هل الوحدة هي حلم السودانيين وحدهم أم هي أشواق متبادلة؟ هذا الشعار رفعناه منذ أن لاحت بوادر الانفصال وأنا شاهد عصر، وتحدث الرئيس عن الوحدة في مراحل خلت، ولكن المناخ في عهد مبارك لم يكن ملائمًا لرفع هذا الشعار، ولكن عند اندلاع الثورة زار الرئيس مصر كأول رئيس عربي مسلم يزورها بعد الثورة والتقى بطنطاوي ولأول مرة يتحدث عن الوحدة بصوت عال نيابة عن شعبه وأنها أصبحت حديث المجتمع السوداني خاصة في ظل احتمالات الانفصال ووجد الحديث صدىً طيبًا لدى المجلس العسكري ولأول مرة يلتقي الرئيس بالأحزاب المصرية ووجد حديثه صدىً طيبًا لدى كافة مكوِّنات المجتمع المصري وقد بدأت الأحزاب تنادي بالوحدة ولكن يجب أن يؤطَّر لهذا المشروع بالتدريج. إبان الرقابة القبلية كنا نُمنع من الكتابة عن مصر أو إثيوبيا.. إذن هل هناك من المسكوت عنه ما أصبح مباحًا بعد سقوط مبارك؟ لست طرفًا في المسكوت عنه ولكن تناول الأشياء الحساسة في العلاقات بين الدول يجب أن يكون بحذر ورؤية شاملة، فالشخص عندما يقطع الطريق يجب أن يلتفت يمينًا ويسارًا، وقد كان الحديث عن حلايب بدون رؤية في المرحلة السابقة يثير المشكلات في السودان ومصر، وكان ينبغي أن ننتظر نتيجة الجهود الجارية للحل بدلاً من التنازع والكتابة في الصحف، ونحن نحتاج لحشد الرأي العام في مصر وغيرها لتأييدنا في بعض القضايا الكبيرة إذن يجب أن تلتفت يمينًا ويسارًا قبل الإجابة عن هذا السؤال، عُيِّنت سفيرًا بمصر إبان توتر العلاقات مع النظام السابق، وبعد زوال التوتر بزوال النظام جيء بك لإثيوبيا التي يتحدث البعض عن توترات بينها وبين السودان رغم ما يبدو من تصالح هل للأمر علاقة بإدارة ملفات معينة تصلح بخلفيتك الأمنية العسكرية؟ هذا السؤال إجابته ليست لديَّ، بل لدى الجهة التي ابتعثتني، ولكن أقول إنني التقيت الرئيس عندما كنت واليًا للجزيرة وتحدث عن أهمية تطوير علاقتنا مع مصر وتحريكها في مجالات محددة، وبهذا التكليف ذهبت لمصر وبذلنا ما نستطيع من جهود ونأمل أن نكون وُفِّقنا، ثانيًا ذهبت لمصر قبل الثورة ولا بد أن أقول إنني وجدتُ كل إحترام وتعاون من الرئيس مبارك وأعوانه خاصة من عمر سليمان وأبو الغيط ووزير التعاون الدولى فايزة أبو النجا، ونحن هنا في إطار حقائق ولست طرفًا في السياسة المصرية الداخلية، وبالتالي لا أستطيع أن ألوم النظام الماضي في المسائل التنفيذية العادية، ولكن لدينا تحفظات حول بعض القضايا الإستراتيجية المتعلقة بالعمل السياسي فأحيانًا كنا نحس أن ما يتم العمل به معنا شيء وما يُضمر في اتجاهات مضادة خاصة في التعامل مع المعارضة وحركات التمرد والخط الإستراتيجي مع السودان، أما العلاقة مع إثيوبيا فهي في ذروة الامتياز وليس هناك أي توتر، وعلينا المحافظة على هذه العلاقة ولا نسمح بالعودة للخلف. أقصد توترات بسبب الحدود وبعض التوترات التي أفرزتها علاقة السودان بإريتريا التي دعمها السودان من قبل على حساب إثيوبيا التي ربما لا تنسى له ذلك؟ ليس هناك أي توتر، وقد كان هناك اجتماع يضم 120 سودانيًا منهم 4 ولاة «كسلا وسنار والقضارف والنيل الأزرق» والأمين العام للحكم اللا مركزي الأمين دفع الله وكل أعضاء حكوماتهم والمؤتمر اسمه مؤتمر تنمية الحدود، وعندما نقول تنمية هذا يعني أننا تجاوزنا أي توترات، وفي الأسبوع المنصرم كان لدينا وفد من القوات المسلحة في لجنة مشتركة بين البلدين تناقش الموضوعات الإستراتيجية في التعامل العسكري وخرج بنتائج، وبعد فترة ستجتمع اللجنة الوزارية الرئاسية بمستوى وزيري خارجية البلدين وتنتهي هذه المنظومة باجتماع الرئيسين البشير وزناوي، أما العلاقة بين إثيوبيا وأسمرا فالسودان ليس طرفًا فيها ولن يكون طرفًا في نزاع بين بلدين بل نتمنى أن تعود العلاقات طيبة. سابقًا مِلنا ناحية العراق في حربها مع الكويت فأثر ذلك على علاقتنا مع الأخيرة حتى الآن، وقد يتكرر ذلك في حالتنا الأخيرة؟ أنا لا أتكلم عن فرضيات بل عن واقع ماثل الآن، فالاحترام متبادل بين السودان وإريتريا وبين السودان وإثيوبيا وهذا الاحترام قائم على أسس موضوعية وعلى المصالح المشتركة.