يجب أن نعترف... و«نقنع» تماماً، من الحكومة وقدرتها على مكافحة الفساد، فهي تقف عاجزة تماماً عن تقديم مذنب واحد للعدالة ليواجه مصيره المحتوم، وتحوّل شكنا إلى يقين في أن المفسدين والفاسدين، لا تستطيع جهةٌ ما ردعهم ولا استئصالهم ولا كفّ أذاهم عن الدولة والمواطن. فرغم حديث السيد النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان، أمس في الفاشر، أمام الملتقى الإعلامي الذي خاطب جلسته الختامية، وتأكيده أن سيوف الحكومة مشرعة لمواجهة وبتر الفساد، نخشى أن يكون هذا السيف الذي لم نرَه ولم نسمع به إلا وهو في غياهب غمده، ونظنه نبا نبوة لا يصلح معها أبداً، ولن تنصلح إذن لنا حال، وسيلْتهمُ غول الفساد بلادنا فهو أقوى من الحكومة التي أضاعت كل أمل وسانحة في إقناع مواطنيها أنها على قدر المسؤولية الوطنية الملقاة على عاتقها وتقوم بأهم واجباتها في درء الفساد وكبْح جماحِهِ وصدِّه وتخليص نفسها من دمامله وبثوره التي ملأت جلدها... مهما كتبتْ الصحافة أو تحدَّث الرأي العام في الفساد الذي لا يتجادل فيه اثنان، هرعت حكومتُنا إلى التكذيب، ولاذت بركنها التبريري العاجز في أنه لا توجد أدلة ولا مستندات وتصبح الصحافة بين غمضة عين وانتباهتها هي المتهم والمدان، وتستعصم الحكومة بقوانينها التي فصّلتها على مقاساتها وليس على مقاس واجباتها تجاه الشعب، فتجهض كل مسعى للحصول على الحقيقة التي تضيع في الغالب بين القصد والمماطلات والمطاولات... ثم لا شيء يحدث.. كم هو عدد ملفات الفساد التي أُثيرت خلال السنوات الماضية؟؟ التي نُشرت أو التي فاحت روائحها زاكمة الأنوف ولم تكن عملية كشفها تحتاج لصحيفة أو أي وسيط إعلامي جريء وقادر؟ أين ذهبت عشرات القضايا التي أُثيرت في الصحف؟ ما الذي تم حيالها، وهل كل من تكشف عنه الصحافة ويتحدَّث عنه الناس هو من الأطهار الأخيار في كل ما أُثير ويُثار؟! لو تابعت الحكومة ملف فساد واحدًا بجدية وحزم وحسم لوجدت المثير الخطر، لكنها تغطيه خاصة عندما تتشابك الخطوط وتكثر على الدرب آثار الأقدام النجسة... لكن الحكومة في نهجها لمواجهة الفساد تنطلق من فرضيات خاطئة إن لم يكن تواطؤًا بائنًا، فتلجأ للتعقيدات الإجرائية دون أن تنتبه أن القانون من حيث إنه قانون تتسع فيه فرص النجاة للمتهم أكثر من إقامة الحجة عليه، ويستفيد المجرم القادر على حماية فساده ورقبته من التحايل على هذا القانون، الذي يعجز عن إنصاف المظلوم وإشاعة العدالة... على الحكومة أن تعي أن الفساد الذي نتحدث عنه ونكشفه لم يصل بعد لمستوى وزير أو غيره، فذاك له مجال آخر... لكن الفساد الأكبر في قيادات الخدمة المدنية ومن يسمون بحراس القانون مثل قضية المستشار مدحت التي نشرتها وكشفتها صحيفة السوداني، وغيرها من القضايا الأخرى التي تشير لها الصحف كل يوم.... شبكات الفساد في الوزارات وكل مستويات الخدمة العامة والهيئات والشركات الحكومية والقطاع العام، من كبار الموظفين أو القيادات الوسيطة هو أخطر أنواع الفساد الذي يعطِّل مصالح المواطن المسكين ويسلبه حقوقه ويتلاعب عليه ويخدعه ويغشُّه، ثم يتنامى هذا الفساد إلى أعلى حيث يجد الحماية من بعض النافذين في الدولة نفسها، وعندما يصل لهذا الحد والمستوى.. يسكت عنه!! ويداري.. ويستر!! ويقمع من يكشفه سواء كان صحفيًا أو غيره ويُعامَل بتعسُّف وقهر كما تحاول الجهات المنوط بها معالجة هذا الأمر في وزارة العدل في قضية المستشار مدحت عندما جيء بمحمد فريد الذي نعرفه ونعرف الكثير عمّا كان يفعله مع الصحافة والصحافيين كما أشار إلى ذلك بعض الزملاء في كتاباتهم.. فكيف نطمئن لسير التحقيق في هذه القضية مع هذا المحقِّق والمتحري الذي لا نثق به أبداً ولن نثق... نرى شيئاً سيحدث «ستُدغمس» هذه القضية كسابقاتها، وقد ينجو مدحت عندما يجدون له المخرج والمهرب ولا بواكي على العدالة والقانون.. الإصلاح الذي نريد يبدأ من داخل الجهة التي عليها الحفاظ على القانون وتطبيقه...