ربما تختلف طقوس الإبداع لدى المبدعين فمنهم من ينتج أعماله ببصمة واضحة منفردة يجتهد فيها كي لا تشابه آخر، وهنالك من يستند إلى أعمال الغير ويجعلها مرجعًا أو مصدرًا يرجع إليه متى ما أراد، وبين هذا وذاك نجد مسمى الاقتباس الأدبي الذي ضرب أوساط المبدعين عالمياً ومحلياً، حيث يشرع الكاتب في تبسيط أحد الأعمال الفكرية القديمة لترى النور ثانية بوجه آخر لا يختلف كثيرًا عن الاصل، وقد يكون استند فيه إلى حقيقة علمية او تاريخية وما الى ذلك.. لكن هنالك من يدمغ مثل هذه الاعمال المُقتبسة بالافكار المُفلسة ومنهم من يرى فيها محمدة لكونها تبسط ما هو معقد.. اذن متى يكون الهدف من الاقتباس نبيلاً ومتى يكون سلبيًا ينتقص من عمق التناول وبالتالي عمق الثقافة، وما يهمنا في ذلك القيمة الادبية الابداعية التي نرجو ان تكون حاضرة بقوة في تلك الانماط الابداعية المختلفة. «نجوع» طرقت القضية حتى تتضح الرؤية وتعم الفائدة حيث استطلعت اهل الاختصاص فماذا قالوا؟ نماذج حيّة كثير من الأدباء واللغويين أخذوا ينقلون من كتاب «كليلة ودمنة» حكايات وأمثالاً كما نجده في «عيون الأخبار» لابن قتيبة أو يؤلفون على منوالها كما حُكي عن كتاب «القائف» للمعري الذي ما زال مفقوداً وكتاب ابن الهبّارية في الشعر «الصادح والباغم» الذي طُبع مرات عدة وغيرهما. كما ان امير الشعراء أحمد شوقي كتب خمسين قطعة على لسان الحيوان تؤكد تأثره بحكايات «كليلة ودمنة» وأفكارها كقصيدته «الثعلب والديك». وهنالك ادباء احتذوا ابن المقفع في الكتابة والأساليب وغزارة المعاني واقتباس الأمثال والحكم من أفواه البهائم والطير ومن ثمَّ نسجها في أشكال شعرية ونثرية... فأبان بن عبد الحميد اللاحقي نظم كليلة ودمنة شعراً ولكن منظومته ضاعت ونظمها عدد آخر مثل سهل بن نوبخت.. وكان أنوار سهيلي قد ترجم «كليلة ودمنة» إلى الفارسية ومن ثمَّ ترجمت إلى الفرنسية فتأثر بها لافونتين وحاكاها ثمَّ تأثر الأدب العربي الحديث بها إذ ترجمها من العرب المحدثين محمد عثمان جلال؛ فقد ضمّ كتابه «العيون اليواقظ في الحكم والأمثال والمواعظ» كثيراً من حكاياتها وأفكارها... واتسمت حكاياته بالإيجاز واستخدام بعض الألفاظ العامية فضلاً عن تأثره بحكايات لافونتين. معالجة للمواضيع الصعبة الدكتور ابراهيم اسحق اوضح في حديثه مع «نجوع» أنه يفضل ان يطلق كلمة «استلهام» بدلاً من «اقتباس» حيث قال في مجمل افادته: «في موضوع الاستلهام أنا ارى أنه يمثل نهجاً قديماً ومستديماً لا يسهل الاستغناء عنه. فالمواضيع الإنسانية تكاد تكون محدودة امام المبدعين، اذ يحاولون ايجاد الوسيلة القديمة في النظرة للمواقف البشرية الصعبة وبالتالي هم يعيدون في أجيال متوالية معالجة نفس هذه المواضيع الصعبة، لكن في قوالب فنية جديدة. ولنضرب مثلاً من فكرة المعراج. فالكوميديا الالهية ل «دانتي» الايطالي أُخذت عناصرها من التراث اليوناني والروماني في العصور القديمة وأُخذت أجزاء اخرى من فكرة المسلمين الاندلسيين عن «الاسراء والمعراج» في الصورة الخيالية التي قدمها ابو العلاء المعري وفي الصوفية محيي الدين بن عربي. ونجد ان اغلب الاشعار والمسرحيات والقصص التي كتبها « طاغور» الكاتب الهندي الذي فاز بجائزة نوبل سنة 1915م معظمها يرجع الى التراث الهندي القديم في ملحمتي «المهابهاراتا» و«الرانيانا» وقصص الهند التي دخلت للامة الاسلامية فيما بعد في ترجمات بغدادية مثل «كليلة ودمنة» و«الف ليلة وليلة». على هذا المساق نستطيع ان نجد الآلاف المؤلفة من حالات استلهام المبدعين المتأخرين للمواضيع التي عالجها من قبلهم في التراث البشري. ضرورة لا بد منها دكتور الصديق عمر الصديق مدير معهد العلامة عبد الله الطيب للغة العربية اكد ان الاقتباس ضروري ومهم لأن العلم لابد له من تأصيل لأن تاريخ الإنسانية انما هو بحث دائم عن الحقيقة لكن ينبغي الا نتوقف عند المصادر فقط وانما نبني على ذلك على ما انتهت اليه الفترة الحالية، وعلى هذا النمط يمكن ان يكون الاقتباس مقبولاً ذا قيمة ادبية ابداعية اما اذا كان الاقتباس يتوقف عند الاقتباس فهذا هو الافلاس بعينه لأننا في هذه الحالة نقتات على ما انتهى إليه القدماء. وصلاً للأصل بالعصر الاستاذ ابو عاقلة ادريس اوضح في حديثه ل«نجوع» ان هنالك فرقًا بين السرقة الابداعية والاقتباس الذي يستلهم الاشراقات والافكار النبيلة باعتبار ان الفكر الانساني وإرثه متجدد وممتد عبر مسيرة الاصول والقرون، هذا هو الاقتباس الذي يمكن ان يقدم اضافة جديدة لتراث الانسان لا مجرد الاجترار، والبحث والنقد الادبي جزء من مكوناته الاساسية لاعادة صياغة هذا التراث وصلاً للأصل بالعصر. وختم ابو عاقلة حديثه بأن الاعمال الأدبية المقتبسة تكون ذات قيمة ابداعية وجمالية بروح مغاير جديد.. وامّن على ان يكون هنالك توازن بحيث لا يكثر العمل المقتبس حتى لا يضر.