لقد زرت ولاية نهر النيل أكثر من مرة وأعرف عن جغرافيتها وإنسانها الكثير وتربطني بها صلات عميقة، لكن زيارتي لها هذه الأيام جاءت مختلفة إذ أنني زرتها مرافقاً لثلة خيرة علماء وخبرات بلادي في مجال قطاع الثروة الحيوانية التي هي واحدة من الأعمدة التي يرتكز عليها الاقتصاد الوطني ويستند إليها الأمن الغذائي في بلادنا.. جاءت زيارتي إلى نهر النيل هذه المرة بدعوة من وزارة الثروة الحيوانية والسمكية والمراعي الاتحادية، حيث قاد الوفد ربان الوزارة الدكتور فيصل حسن إبراهيم يرافقه كل مديري الإدارات وكوادر الوزارة الفنية، في مشهدٍ يمثِّل أعمق صورة للمتابعة الميدانية والوقوف على الواقع بخلاف ما تكتبه التقارير التي عادةً ما تحاول الاقتراب من الحقيقة غير أنها لا تمنح المسؤول الاطمئنان مثلما الرؤية والمعايشة. اللافت في الزيارة التي استغرقت يومين كاملين أنها كانت عبر بص تجاري حمل كل الوفد بلا استثناء وقد كان مشهداً لافتاً في الحقيقة، وقد أتاح لنا الأخ الوزير الوقوف على الحقيقة كاملة عبر البرنامج الداخلي حيث تحدَّث كل الخبراء ومديرو الإدارات عن طبيعة عمل وأهداف ومقاصد الزيارات الميدانية للولايات، هذا فضلاً عن حجم الترشيد في المال العام.. الكثيرون يظنون أن ولاية نهر النيل عبارة عن أرض قاحلة لكن الحقيقة الواضحة لكل من يقف على الواقع سيجد ولاية متمدِّدة في مساحة وخريطة استثمارية تتجاوز كل ولايات البلاد بفضل الرؤية البيِّنة وتوفر الإرادة السياسية الطموحة لحكومة الولاية التي طرحت شعار العام 2012م وهو «بالإنتاج لن نحتاج».. وأحسب أن هذا الشعار عميق الدلالات إذا أمعنّا النظر خاصة أن نهر النيل لها مميِّزات نسبية في الموقع الإستراتيجي على النيل والموارد المتعددة وكذلك البنى التحتية في الكهرباء والطرق العابرة والفرعية، هذه وغيرها أحسب أنها أعطت المستثمر الوطني والأجنبي الرغبة والضمان في الدخول في استثمارات ضخمة، فقد رأينا المدهش عندما توقف الوفد في أولى محطاته بمنطقة «قنتو» حيث مشروع الفايت الزراعي والحيواني وهو رأس مال وطني وضع أضخم فكرة في أرض الواقع مشروع يبعث الأمل والطمأنينة رغم أنه يحفز للحديث عن واقع الثروة الحيوانية التي تعيش في المراعي الطبيعية بوديان السودان المختلفة، في مزرعة «الفايت» كل الأبقار هولندية حتى الثيران وتعيش تحت سقوف «جملونات مبردة»، وعلفها أمامها وصغارها «العجول» يعيشون في رفاهية تؤكد عزة ونعومة الدم الأجنبي وغلاته «كمان»، هذه الأبقار لا تستطيع العيش في بيئة غير تلك التي صُنعت لها؛ لأنها قادمة من بيئة شديدة البرودة.. وعكسها تماماً وجدنا الإهمال يمشي على قدميه في مزرعة أخرى بعطبرة تعيش فيها أبقار سودانية «تعبانة» حد الموت «عايشة» على بقايا قصب مهروس في مظهر يخلو من الرقابة ولا حتى الرفق بهذا الحيوان، تلك الحظيرة أولى بها الإغلاق ومعاقبة مالكها الذي تركها للإهمال والعوز. إقبال المستثمرين بذلك الحجم الذي رأيته يكشف أن حكومة نهر النيل وأبناءها في المواقع الأخرى على وعي تام وأن «التساهيل والإجراءات» قد توفرت للمستثمرين حتى تقاطروا من باكستان ومصر وإيران والمغرب والصين ودخولهم في استثمارات كبيرة ممثلة في صناعة الأسمنت والبلاستيك والمواد الغذائية والدوائية بجانب تلك الصناعات الكبيرة، والمشروعات الزراعية والإنتاج الحيواني.. بكل صدقٍ كنت سعيداً برفقة هؤلاء العلماء الذين هم ثروة السودان، وإذا توفرت لهم الإمكانات سوف يصنعون العجب في تفجير طاقات هذا البلد الزاخر بالمواد بكل أنواعها، وهذه العقول إذا توفرت لها الإرادة ستصنع من هذا البلد رجلاً قوياً صعب المنال. الوفد الكبير من خبراء وعلماء الثروة الحيوانية والطب البيطري الذين زاروا نهر النيل وقبلها النيل الأزرق وشمال كردفان وسنار يحملون رؤية نافذة لمستقبل قطاع الثروة الحيوانية وإستراتيجية الاستثمار فيه، هذا الأمر يتبيَّنه الشخص في حديث أي من أركان الوفد بدءاً من الدكتور محمد عبد الرازق وكيل الوزارة، أو البروف عبد الرحيم محمد مدير هيئة البحوث، أو البروف أحمد حسين مدير معهد البحوث البيطرية، أو الدكتور سليمان جابر مدير إدارة المحاجر والقائمة تطول.. من العلماء والكفاءات لا يسعها المجال لكني سأكتفي بهذا العدد، ولا أنسى نون النسوة التي شكَّلت حضوراً لافتاً في الزيارة وكنّ «ملح» الزيارة الدكتورة نادية الدرديري، والدكتورة جميلة قباني، والدكتورة أميرة عوض صالح، بجانب الدكتورة أميرة عوض صالح، والدكتورة عفاف عبد اللطيف، فقد كان كل هذا الحجم الكبير من الوفد مما يعكس حجم واهتمام الحكومة بإعادة النظر في قطاع الثروة الحيوانية ومراجعة السياسات الخاصة به من حيث التخطيط وترسيم مساحات الاستثمار فيه وتسهيل إجراءات الاستثمار بما يستوعب الطلب المتزايد والمتنامي.. نهر النيل قدَّمت نموذجًا ممتازًا في الاستثمار والعمل بقطاع النافذة الواحدة مما يوفر «وقت ومجهود المستثمر» والحد من البيروقراطية المعيقة للعمل، وهو ما رأيناه في مشروع كورال لإنتاج الدواجن ومشروعات البشائر والشيخ الراجحي وغيرها من مشروعات ناهضة تنبئ بمستقبل مختلف لهذا البلد، فليس هناك شخص يصدِّق أن نصدر البرسيم من نهر النيل إلى الإمارات هذا غير المنتجات البستانية ومنتجات الألبان، هذا الملف كبير وفيه ما يتطلَّب اطلاع الرأي العام عليه لذا نعد القارئ الكريم بالمواصلة إن شاء الله.