الإستراتيجية الأحدث للعمل الاستخباري تجاوزت لعبة «الذكاء» التقليدي، الذي يعتمد على «غباء» الخصم، ربما هرباً من «نسبية« الذكاء والغباء التي لا يوجد حتى اليوم ضابطٌ مطلقٌ لها، فقد يمكن اعتبارُ عملٍ ما، في ظرفٍ بعينه ، عملاً غايةً في الذكاء، بينما يمكن اعتبار ذات العمل، في ظرفٍ مختلف، آيةً من آيات البلاهة.. ولهذا وحدهُ لم يعد ضابط العمل الاستخباري هُو أن تستخدم ذكاءك أنت الذي هُو في الوقت ذاته استخدامٌ لغباء خصمك بل تقدم الأمر قليلاً، ليكون العمل الاستخباري الناجح هُو الذي يستثمرُ ذكاء الخصم نفسه.. والشواهد على هذا النوع من «الاستثمار» لذكاء الخصوم، شائعٌ جداً هذه الأيام، خصوصاً في ما يلي المدعو «الربيع العربي» وتداعياته وامتداداته، فهُم يُعطُونك منطقاً قوياً تعدو خلفه، يقولون لك مثلاً على لسان مسؤول إسرائيلي كبير: إن بشار الأسد يجب أن يبقى، لأنهُ الأفضل لمصلحة إسرائيل.. يبدأ «ذكاء» بعضهم في العمل فوراً، لتحليل هذه المعلومة الخطرة التي تقدم بها أحد رموز العدُو، فتكونُ النتيجة هي: ما دام وجود الأسد ضروريَّاً لإسرائيل، فهذا يعني أنهُ عميل من عملاء اليهود، وهذا يعني أنهُ يجب أن يذهب اليوم قبل الغد!!.. ثم يأتي آخر، ليستخدم «ذكاءهُ» في فهم البالون الإسرائيلي، بشكل أكثر عمقاً، ليصل إلى نتيجة مغايرة، هي أنهُ ما دام اليهود يصرحون بضرورة وجود الأسد حتى تتحقق مصالحهم، وما دام هؤلاءِ الناس أذكياء ويعرفون كيف نفكر، فلابُدَّ أن التصريح الإسرائيلي المحسوب بدقة، يستهدفُ الأسد شخصياً، فالشيطانُ إذا سألوهُ عن أحب الناس إليه فسيقول «الأنبياء» حتى يلوث سمعتهم.. واليهود مؤكد إن كانُوا يحبون أحد الزعماء العرب فلن يصرحوا أبداً بهذا الحب، لأنهُ لن يكون في مصلحة محبوبهم أن يعرف الناس علاقته الغرامية بإسرائيل!!.. الآن، فإن الأمر المحير، والذي يحتاجُ فعلاً إلى ذكاءٍ استخباري عربي «وهذا، في الواقع، شيءٌ أندر من لبن الطير» هُو معرفة «درجة» تقدير اليهود لذكائنا، يعني: هل يعتقدُ قادة الموساد والسي آي أي، مثلاً ، أن العرب يملكون حداً متواضعاً من الذكاء، يجعلهم يستنتجون أن تصريح اليهود بحبهم بشار الأسد، سوف يدفعهُم إلى الاقتناع بعمالته لليهود؟؟.. إن كانُوا يظنون أن هذا هُو سقفُ ذكائنا، فالمؤكد أنهم بهذا التصريح الزاعم أهمية بقاء بشار الأسد في مكانه حاكماً لسوريا، بالنسبة إليهم ، إنما يُريدُون أن يتخلصوا من الرجُل بأسرع وسيلة ممكنة.. أما إذا تصور اليهود أن لدى العرب قدراً من الذكاء الذي يوصلهم إلى الاستنتاج الآخر، وهو حقيقة أن اليهود يكتمون هواهُم لمن يهوون، ويدسون أحبابهُم من الزعماء العرب في حدقات أعينهم، وأنهم متى صرحوا بحبهم أحد قادة العرب فإنما يعبرون عن كراهيتهم إياه لا أكثر.. إذا قدَّرَ اليهود أن ذكاءنا يبلغ هذا الحد، فالمؤكد أن التصريح الإسرائيلي بأهمية الأسد لأمنهم إنما يُرادُ به فعلاً الاحتفاظ بالأسد زعيماً على سوريا.. هذا نموذج واحد من نماذج استثمار ذكاء الخصم «وهذا كما هو واضحٌ أعلاه يستوجب أن يكون مقدارُ ذكاء الخصم هذا معلوماً»، أما النماذج الأخرى، فهي أكثر من أن تُحصى ، بعضها يُمكنُ اقتناصه في زيارة سلفا كير لإسرائيل، فالمؤكد أن الرسائل المضمنة في تلك الزيارة وفي تداعياتها ليست هي بالضرورة ما فهمناهُ تواً، الأمر بحاجة إلى ذكاءٍ غير تقليدي حتى يتسنَّى التعامُل الحكيم مع أمور كهذه.. يُزعجُني كثيراً في الواقع ألاَّ أكون مفهوماً، ولكن في بعض الأحيان تتمثل الكارثة في أن يفهمك الجميع!!