تمر اليوم ذكرى الاستقلال «المنقوص» الذي أُعلن في الأول من يناير «1956»م. والذي دشّن خروج الاستعمار من السودان ورفع علم السودان الذي حلّ محلّ علم المستعمِر الأجنبي. في ذلك اليوم احتفل شعبُ السودان الشمالي بتلك المناسبة أما شعبُ الجنوب وأما جوبا فقد استقبلت تلك المناسبة ببرود شديد بل إن كثيراً من النخب الجنوبية استقبلت ذلك اليوم بحزن وألم وأعلنوا على رؤوس الأشهاد أنهم أبدلوا سيداً بسيد وكانوا يعنون أنه إذا كان الإنجليز قد خرجوا فإن من حلّ محلَّهم هم الشماليون الذين كانوا يبغضونهم بأكثر مما يبغضون أحبابهم الإنجليز!! قبل ذلك التاريخ بأربعة أشهر وتحديداً في 18/8/1955م اشتعل الجنوب وتمرد على الشمال بما عُرف بأحداث توريت وماهي بأحداث توريت لوحدها وإنما كانت تمرداً شمل «13» مدينة ومركزًا في وقت واحد قُتل خلاله مئات الشماليين الذين كان معظمهم مدنيين من النساء والأطفال والشيوخ وكانت النساء الحوامل تُبقر بطونهنَّ في أبشع عمليات تطهير عرقي كشف لكثير من أبناء الشمال منذ ذلك التاريخ استحالة توحيد شعبي الجنوب والشمال لكن السياسيين الشماليين يتحملون المسؤولية الكاملة عن تردُّدهم وعجزهم عن اتخاذ القرار بل عن انسياقهم وراء مؤامرة المستعمِر الإنجليزي الذي زرع شوكة الجنوب السامة في خاصرة الشمال نكاية بالشمال حتى يعوِّق تقدُّمه ويعطِّل مسيرته ويُدخله في نفق التخلف والاقتتال المعبَّر عنه بالوحدة.. وحدة الدماء والدموع. لذلك لا غرو أن يحتفل الشمال بالاستقلال في وقت كان فيه الجنوب يبدأ تمرده وثورته على الوحدة مع شعب السودان الشمالي وكان الحزن يلفّ أبناء الجنوب في ذلك اليوم فأي استقلال ذلك الذي يفرح به جزءٌ من الوطن ويحزن به الجزء الآخر الذي اعتبر يوم استقلال الشمال هو يوم بداية الاستعمار الأشدّ للجنوب؟! أما في الشمال فإننا في منبر السلام العادل أعلنّا أنه استقلال منقوص لسببين: أولهما أنه لم يشمل كل السودان وأعني أنه لم يشمل الجنوب الذي كان قد بدأ (نضاله) من أجل استقلاله من الشمال، وثانيهما أن الشمال دخل في نفق الحرب المتطاولة بسبب خطئه التاريخي المتمثل في الإصرار على ضم الجنوب تمامًا كمن يُصرُّ على خلط الزيت بالنار فأي استقلال ذلك الذي يتسبَّب في اشتعال الحرب وبداية مسيرة التخبُّط السياسي والتخلُّف الاقتصادي؟! أي استقلال ذلك الذي يتسبَّب في صراع مكوِّنات الوطن حول الهُوية؟! أي استقلال ذلك الذي يجمع بين شعبين متنافرَين متناقضَين في الدين واللغة والعادات والتقاليد والثقافة والعِرق؟! لذلك فقد كان استقلال الشمال منقوصاً أما الجنوب فإنه لم ينل استقلاله بل اعتبر يوم استقلال الشمال هو يوم بداية استعمار جديد أشدّ وأنكى أما استقلالُه الحقيقي فقد حدث بانفصال الجنوب. لقد كان اعترافًا جريئًا، حتى ولو جاء متأخرًا، من رئيس الجمهورية أن يسمِّي هذه الذكرى بعد انفصال الجنوب بالاستقلال الثاني أما المفكِّر أمين حسن عمر المعروف بصراحته فقد قال: (نحن نلنا الحرية والاستقلال مثلما نالهما الجنوبيون). أما منبر السلام العادل الذي قاد حملة تبصير الناس بالخطأ التاريخي فقد أعلن أن يوم الانفصال هو يوم الاستقلال الحقيقي للشمال. خبِّروني بربكم من الذي نال استقلاله أكثر من الآخر بالانفصال نحن في الشمال أم أبناء الجنوب؟! تعالوا نتحاسب والحساب ولد كما يقولون:- منذ نيفاشا وتكوين حكومة الجنوب في عام 2005م أصبح الجنوب محكومًا من قِبل أبناء الجنوب بالكامل ولم يكن لرئيس جمهورية السودان.. أدنى سلطة في جنوب السودان حتى ولو بتعيين خفير أو عامل بينما كان رئيس الجنوب المطلق الصلاحيات في جنوب السودان يتقلَّد منصب النائب الأول لرئيس جمهورية السودان بما يعني أنه كان يحكم الجنوب ويشارك في حكم الشمال ليس بمنصبه فقط وإنما من داخل مجلس الوزراء بوزارات سيادية مثل الخارجية ووزارة مجلس الوزراء وغيرهما وكذلك من داخل البرلمان والولايات الشمالية. عندما انفصل الجنوب خرج الوزراء الجنوبيون بل النائب الأول سلفا كير من حكم الشمال وخلت تلك المناصب للشماليين فأيهما نال استقلاله بالانفصال نحن في الشمال الذين عادت إلينا المناصب السيادية وغيرها والبرلمانية التي كان (الاستعمار) الجنوبي يشغلها في بلادنا أم الجنوب الذي خرج من الشمال وأصبح أبناؤه أجانب تمامًا كالإنجليز عند خروجهم من السودان؟! إذن فافرحوا أيها السودانيون فقد خرج الاستعمار الجنوبي وانتهت وحدة الدماء والدموع ووالله إنها لنعمة تستوجب الشكر ولو حدثت الوحدة من خلال استفتاء تقرير المصير لحلَّت كارثة كبرى بالشمال ولاستمر الجنوب يشارك في حكم الشمال ولا يُشركنا في حكمه ولأصبح الجيش الشعبي جزءاً من قواتنا المسلحة ويشكِّل خمسين في المائة من تلك القوات ولدخل سلفا كير وباقان وعقار وعرمان القصر الجمهوري ولذُبح السودان الشمالي من الوريد إلى الوريد.