إذا كان صديقي د. أمين حسن عمر قد سمّى انفصال الجنوب بالاستقلال الثاني للسودان الشمالي وقال إن الشمال أحقُّ باستخدام كلمة الاستقلال من جنوب السودان فقد سمّينا نحن في منبر السلام العادل انفصال الجنوب بالاستقلال الحقيقي وليس الاستقلال الثاني باعتبار أن الاستقلال الأول عقب خروج الإنجليز في بداية عام 6591 لم يكن استقلالاً حقيقياً وإنما منقوصاً كما سأبيِّن في هذا المقال. كذلك فقد اتفق د. أمين معنا في الحيثيات التي سقناها للدعوة إلى الانفصال فقد قال أمين ما يلي: «الناظر إلى تاريخ السودان القريب منذ الاستقلال يدرك حجم الضرر الهائل الذي ألحقته مجموعة من العوامل جعلت من جنوب السودان عامل الاستنزاف المستمر لدماء أبناء السودان ولناتج عرقهم وكفاحهم كما أنها كانت السبب الأكثر أهمية في توسيع شقة الخلاف بين القوى الوطنية وإشعال الفتن والتمرد في كل مكان نشأت فيه فتنة أو انفلت تمرد» وأضاف أمين أن التمرد في جنوب النيل الأزرق وجبال النوبة كان امتداداً للنزاع في الجنوب وكذلك نزاع دارفور بسبب التحريض والإسناد الأمني وقال أمين كذلك «إن الروابط والوشائج والأواصر وشراكة التاريخ والآلام والآمال والمقاصد هي التي تصنع الشعوب الموحَّدة». نعم كان استقلالنا منقوصاً لعدة أسباب أهمها أن الإنجليز خرجوا بأجسادهم ولكنهم تركوا لنا إرثاً استعمارياً في الثقافة والاقتصاد والتشريعات فقد كنا نحتكم إلى القوانين الإنجليزية بعيداً عن مرجعيتنا وهُويتنا وقبلتنا، كما أن استقلالنا كان منقوصاً من تلقاء الجنوب الذي قالت قياداتُه السياسية عند خروج الإنجليز «استبدلنا استعماراً باستعمار» بل إن أبناء الجنوب كانوا ولا يزالون أقرب إلى الإنجليز وثقافتهم من قربهم إلينا، أما العامل الأهم الذي جعل استقلالنا منقوصاً فقد تمثل في أن الإنجليز لم يخرجوا قبل أن يزرعوا شوكة الجنوب السامة في جسد السودان فقد ربطوا الجنوب بالشمال بدون أي حيثيات موضوعية الأمر الذي أدخلنا في نفق الحرب المظلم التي أهلكت الحرث والنسل على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان وانفجرت الحرب قبل خروج الإنجليز بتمرد توريت والمدن والمراكز الأخرى. دعونا نجيب عن السؤال: من أحق بأن يحتفل بالاستقلال عند انفصال الجنوب ومن زادت سيادتُه على أرضه نحن أم الجنوب؟! كان الجنوب منذ نيفاشا يُحكَم بواسطة أبنائه بدون أي تدخُّل من الشمال الذي لم يكن رئيسُه رئيساً فعلياً على الجنوب بينما كان الجنوب ممثلاً في الحركة الشعبية والأحزاب الجنوبية الأخرى مشاركاً في حكم الشمال بنسبة الثلث في مجلس الوزراء والبرلمان بل مشاركاً في حكم ولايات الشمال مع مشاركة أعلى في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق!! أما اليوم فقد خرج الجنوب من حياتنا ومن أرضنا كما خرج الجيش الشعبي «المحتل» من الخرطوم ومدن الشمال الأخرى وحتى فلوله في جنوب كردفان والنيل الأزرق لا تنتمي إلى الجنوب بما يعني أنها شمالية ولولا قياداتُها العميلة التي حاولت توظيفها سياسياً لخدمة أجندة الجنوب لما كانت هناك مشكلة البتة فأيهما نال استقلاله من الآخر الشمال الذي خرجت الحركة الشعبية والجنوب وجيشُه المحتل من أرضه أم الجنوب الذي خرج الشمال منه منذ نيفاشا؟! صحيح أننا نعمل اليوم على استكمال استقلالنا من العملاء والمرتزقة من أمثال عرمان وعقار والحلو، وما يطمئن أن من تحرَّر من عبء الجنوب وجيشه الشعبي لن يُعجزه إخراج فلول العملاء والمرتزقة. صدق أمين إذ يقول إن فضّ الشراكة الوطنية بين الشمال والجنوب «إن كان له ضرر فضرره الأقل على شمال السودان وإن كانت له عوائد وفوائد ففائدته أكبر وأكثر لشمال السودان وما عاد السودان في حاجة إلى أن يسير بسير ضعفائه لأن من كان يتأبَّط ذراع السودان اختار أذرعاً أخرى ليستند إليها واختار قبلة أخرى ولغة أخرى وربما ثقافة أخرى» وأضاف: «فمن ترك السودان عن ميسرته ومضى سيتركه السودان عن ميمنته ويمضي ومن يبكي على الجغرافيا بدموع صادقة ومن يتباكى عليها يجب عليه أن يدرك أن السودان لا يزال وطناً من أكبر الأوطان وأنه يأتي في المرتبة السابعة عشرة من دول العالم من حيث المساحة وأنه بات الآن أكثر تجانساً من حيث السكان والعقيدة والثقافة واللغة وأصبح أكثر ترابطاً واتصالاً بين أجزائه وأرجائه وأصبح بانفصال الجنوب أرقى درجة في سُلَّم التنمية الاجتماعية والاقتصادية بمؤشراتها المختلفة سواء في الصحة أو التعليم أو نصيب الفرد من الناتج الإجمالي»!! لقد أفصح أمين أخيراً عمّا في نفسه مما كنتُ أعلمه من قديم وليت الساكتين يتحدثون ويُخرجون ما في قلوبهم وعقولهم كما فعل أمين ولو أخرج أمين ما في جوفه لقال المزيد وهل من مزيد أكبر من أن يقول أمين للحزانى على مقولة (بلد المليون ميل مربع) إن ذلك كان «الوطن الجغرافيا ولكنه لم يكن الوطن التاريخ ولم يكن الأواصر المتلاحمة ولم يكن وطن المواطنين الذين لا نعرف بينهم المشاعر السلبية التي تّربت من التحريض العنصري والتعبئة السياسية وحملات الدعاية الأجنبية»!! ماذا بقي من فكر منبر السلام العادل لم يقله أمين حسن عمر بلغة رفيعة ورؤية ثاقبة ونظر حديد؟! لقد والله كان الانفصال بين الشمال والجنوب يمشي بيننا في الطرقات التي لم تشهد علائق اجتماعية حتى بالنسبة للمتساكنين في الغرفة الواحدة في داخليات الجامعات أو في الأتراح والأفراح.. انفصال باعد بين تاريخ الشمال والجنوب فأي تاريخ يدرَّس لأبناء وطن يُراد له أن يتوحَّد بالرغم من أن مجرمي الشمال هم أبطال الجنوب وعظماء الجنوب هم الخونة في الشمال؟! أي تاريخ يدرَّس لأبناء الجنوب الذين يعتبرون أبطال المهدية تجار رقيق والذين يحتفون بقَتَلَة أبناء الشمال منذ التمرد الأول الذي أشعل فتيل الحرب لأول مرة؟! صدق أمين إذ يقول وهو «يحتفل» معنا «كتابة» بالاستقلال الحقيقي: «شاءت حكمة الله أن يعلمنا أن كل لحظة يمكن أن تكون بداية جديدة نتخلص فيها من أوضار الماضي وأوزاره ونتحرَّر مما يشدُّنا إلى الأرض ويمنع تحليقنا نحو القمم».