إلى أين تسير دولة الجنوب الوليدة وما هو مصير شعبها الموعود بالدولة المستقلة التي يتمتع فيها كما قالوا بعبق الحرية وهوائها الطلق بعد أن حُرم منه طوال سني الوحدة مع الشمال، ولكن يبدو أن هذه الدولة موعودة بمصير غامض ومجهول تسوقها إليه الأحداث التي توأد في مهدها أو تلك التي يُقصد أن توأد قصداً عن طريق استطالة التداول حولها وتعدُّد التقارير التي تخرج حولها بهدف تشتيت الأذهان وإرباك العقول عن التركيز فيها فيصيبها اليأس وتنصرف عن التفكير حولها دون أن تصل إلى نتيجة مقنعة حيالها. ففي الوقت الذي لم ينقطع فيه حبل كثير من الشكوك حول حادثة موت قرنق هذا هو القائد جورج أطور يلحق به وفي نفس المكان وبنفس الغموض والجاني المستتر.. جاء موت قرنق عقب زيارة قام بها إلى يوغندا لمقابلة يوري موسفيني، وكذلك حدث مقتل جورج أطور عقب زيارة قام بها إلى يوغندا بعد أن وصلته دعوة من رئيسها موسفيني أيضاً، وجاء التقرير عن موت أطور أنه قُتل في اشتباك لقواته مع قوات الحركة الشعبية على الحدود اليوغندية التي يوجد فيها جيش الرب الذي يقوده الجنرال المتمرد على نظام موسفيني. تزامن مقتل أطور مع الزيارة التي قام بها سلفا كير إلى إسرائيل تلك الزيارة التي بالغ فيها سلفا في إظهار غبطته وفرحته بعلاقة دولة الجنوب والكيان الصهيوني وأفاض في عبارات الشكر والثناء على المساعدات التي قدمها لهم الكيان حتى رأت دولتهم النور، وقال إنه لولا تلك المساعدات لما استطاعوا تحقيق الاستقلال والانعتاق من هيمنة الشمال، وقال إنه شعر بسعادة غامرة عندما وطئت أقدامه أرض الميعاد. إن الكيان الصهيوني ظل يسعى إلى التمدُّد في القارة الإفريقية من أقرب نقطة إليه يمر عبرها مجرى النيل حتى يكمل بذلك السيطرة على النيل ومنابعه التي يضع عليها يده أصلاً في دولة أوغندا، إن إسرائيل تسعى إلى خلق وجود فاعل لها في القارة الإفريقية وعلى وجه الخصوص في الدول التي تشكل حوضاً للنيل وقد تحقق لها ذلك جزئياً في يوغندا بقيادة موسفيني وقد يتحقق لها ذلك كاملاً إذا ما استطاعت السيطرة على نظام دولة الجنوب الأمر الذي بدأت ملامحه تلوح في الأفق بعد انفصال دولة الجنوب، ويتأكد ذلك أكثر بعد الزيارة التي قام بها سلفا كير إلى دولة الكيان وما أظهره من مظاهر تدل على ارتمائه في الأحضان الإسرائيلية فهذه مقدمات دولة الجنوب المستقلة التي وعد بها شعب الجنوب. إن المخطط الإسرائيلي للسيطرة على مجاري النيل العليا ومنابعه بدأ بالتخلص من كل ما يمكن أن يشكل عليهم خطراً حاضراً أو مستقبلاً، وعندما شقيت إسرائيل من ولاء يوغندا الكامل لها بقيادة موسفيني، انصرفت وبمعرفة الرجل ومساعدته إلى التخلص ممن يهددون ذلك المشروع من قيادات دولة جنوب السودان، وبدأ ذلك المخطط بالتخلص من الدكتور جون قرنق الذي بدا منه أنه قد يتنكر يوماً ما لذلك المخطط الذي يعرفه الرجل ذو الكاريزما الطاغية والفكر الثاقب والتطلعات الواسعة، فكان ذلك المخطط الذي قُتل فيه عقب الزيارة التي قام بها إلى يوغندا، إن الكيان الإسرائيلي يبدو أن له قواعد دراسة نفسية كاملة لكل قادة الجنوب والحركة الشعبية، وضمن ولاء البعض منهم نسبة لخلو تكويناتهم من عنصر التطلع والاعتداد بالنفس بالقدر الذي قد يشكِّل تهديداً لها، ومن ضمنهم قادات الحركة الآن وفي مقدمتهم رئيسها سلفا كير، وأن ردود الأفعال التي صدرت عن البعض إزاء زيارة سلفا كير التي قام بها إلى إسرائيل يجب أن تُركن جانباً، وأن يتم التعامل من الآن فصاعداً مع العلاقات التي تربطنا مع دولة الجنوب على أساس أنها لن تتم أو تقدم لنا من تلك الدولة إلا برضاء وضوء أخضر من إسرائيل وإن بدا لنا هذا الشيء خالياً من ذلك. ويظهر هذا الأمر بوضوح في سعي المخطَّط الإسرائيلي بمساعدة نظام موسفيني إلى التخلص من قادة الجنوب الذين يمكن أن يتمردوا على هذا المخطط بطبيعة شخصياتهم التي توصلت إليها إسرائيل بما أجرته عليهم من دراسات نفسية وسايكلوجية، إن نظام موسفيني يتقوّى بالدعم الإسرائيلي لمواجهة تمرد جيش الرب في شمال يوغندا لهذا يستجيب للمطالب الإسرائيلية في التخلص من قادة الجنوب الثوريين، لا ننكر أن الحركة حظيت بالدعم الإسرائيلي منذ فجرها الأول وتحت قيادة قرنق ولكن إسرائيل التي رأت في قرنق خطراً على مخططها الذي تنوي تنفيذه في دولة الجنوب، وذلك عندما رأت في توجهاته الجديدة أنه يمكن أن يتحلل من كل الأجندات التي يبدو أنها غامضة بالنسبة لهم ومشبوهة لا يُرى فيها ما يفيد إنسان السودان الذي يريد أن ينصِّب نفسه قائداً تاريخياً وملهماً له للشيء الذي لا يتحقق له إذا ما ارتبط بتلك الأجندات الغامضة، فكان أن ذهب قرنق إلى يوغندا في زيارة غير معلنة لموسفيني وفي طريق عودته كما رُوي كان حادث الطائرة المشهور وكانت تلك السيناريوهات حول مقتله والتي لم تقنع أحدًا، وبتلك الطريقة والزيارة لنفس الدولة ولنظام نفس الشخص كان مصرع القائد أطور. إن البيان الذي صاغته رسمياً حكومة الجنوب حول مقتل أطور يفضح نفسه ويُظهر غياب المعرفة التامة لمن أعدّه بطبيعة جغرافية دولة الجنوب ومواقع تركيبتها القبلية والسكانية، فأين هو ذلك الموقع الذي قيل إنه شهد معركة بين قوات أطور وقوات الحركة أدت إلى مقتله وهل يمكن أن تكون قواته في هذا الموقع بمنطق الواقع القبلي والجغرافي للجنوب، وإذا ما سلمنا بأنه قُتل عندما كان عائداً لقواته في منطقة جونقلي فكم هي المسافة بينها وبين موقع مقتله وهل دخل أطور إلى يوغندا من ذلك الموقع حتى يخرج منه؟! هذه جميعها تساؤلات توضح خطورة المخطّط الإسرائيلي في المنطقة.