هي ليست وزارة عادية أو نمطية كما الأخريات ولكنها تعرضت في مسيرتها لكثير من التجريب والتبديل كاد يفقدها ذاكرتها وهُويتها وحتى مهامها الأساسية التي أقرتها أدبياتها وقوانينها وأخلاقها.. فالذي حدث في وزارة الصحة الاتحادية في حقب ماضية وحالية من صراعات ومؤامرات تؤكد بجلاء أن هذه الوزارة ربما تعني في مفهوم الحاكمين أنها وزارة مخصصة للترضيات والتسويات السياسية دون مراعاة للحق والواجب والمسوؤلية الملقاة على عاتقها في بلد اقل ما يقول عنه خبراء الصحة في العالم أنه مسكون بالأزمات والأوبئة.. صراعات وملفات تتحرك صعودًا وهبوطًا.. وتصفيات إدارية وسياسية.. تحالفات تنعقد ثم تنفضّ ومصالح تتعاهد ثم تتقاطع.. أوضاع قد لا تبدو طبيعية فالذي يجري في المسرح السياسي من مشاكسات وتحولات بين كافة الأطراف السياسية في الشأن العام تنتقل ملامحه بقدرة قادر إلى «حوش» الوزارة وفي مثل هذه الأجواء تتعطل المشروعات والبرامج وتزداد معاناة المرضى. قضايا كثيرة حرصت «الإنتباهة» على مراجعتها مع الدكتور كمال عبد القادر الوكيل السابق لوزارة الصحة والذي ربما يصفه البعض بانه احد ضحايا صراع السلطة والنفوذ بوزارة الصحة فغادر منصبه بعد أن أمضى ثلاث سنوات وترك خلفه ركامًا من القضايا الخلافية والأسئلة الحائرة والمشروعة وسيبقى الكرسي ساخنًا والعرش مهتزًا ما لم ينصلح حال السياسة والسياسيين وتجرد المهنية من أي توابع أخرى.. عزيزي القارئ هذه هي الوجبة الأولى من المقابلة التي اجرتها «الإنتباهة» مع الدكتور كمال عبد القادر بمشاركة السيد رئيس التحرير.. بداية دكتور كمال تبدو وزارة الصحة للبعض كأنها وزارة للتوازنات والترضيات أو التسويات السياسية.. هل فعلاً تنطبق هذه المقولة على هذه الوزارة؟ وهل تعيين الدكتوركمال جاء على هذه الخلفية؟ للحقيقة أنا جئت لهذه الوزارة على خلفية صراع كان قائمًا بين أطراف الوزارة، ويبدو أن الجهات العليا كانت تعتقد تعيين شخص يقود خطًا مهنيًا قد يكون حلاً حقيقيًا لأزمة هذا الصراع فسارعت الحكومة إلى إقالة وكيل وزارة الصحة آنذاك الدكتور عبد الله سيد أحمد ومدير الإمدادات الطبية والذين كانت الحكومة تعتقد أنهم أساس الصراع، وكنت أنا وقتها مديرًا لمستشفى الخرطوم فطلب إليّ أن أحضر لتولي منصب الوكيل لقيادة الخط المهني بالوزارة ووجدت دعمًا ومساندة كبيرة من القائمين بالأمر في المستويات العليا باعتبار أن هذا الخط هو المخرج. وفي رأيي أن هذا الصراع ليس كهلال مريخ وإنما هو أكثر تعقيدًا لأن أي خطوة في اتجاه إصلاح النظام الصحي ينجم عنها متضررون وآخرون كاسبون، فهناك ثنائيات في القطاع الصحي كالأطباء والكوادر، ووزارة الصحة والجامعات، القطاع العام، والقطاع الخاص، بالإضافة إلى ثنائيات أخرى مؤتمر وطني وحركة شعبية ومع وجود أجنحة وأطراف أخرى يصبح الصراع أكثر تعقيدًا ودائمًا ما تُلبس الأشياء بغير أثوابها ولو حاولنا توصيف الوضع داخل الوزارة أقول إنه كان هناك اصطفاف أول قائم على الولاءات القديمة، وتوازي هذه المجموعة مجموعة أخرى كبيرة جدًا «عائمة» يمكن إعادة اصطفافها لاحقًا ونحن حاولنا أن نُعلي من شأن المهنية ولكن هذا التوجه جعلنا على مرمى نيران الطرفين. وحقيقة عندما جئت هذه الوزارة شعرت من بعض القائمين بأمر الصحة أنهم يبحثون عن كرازاي، بمعنى أنهم يريدون أن يجدوا من يعطونه الأوامر وحينما أدركوا أنني لست «بكرازاي» أصبحت في مرمى نيران الجميع. ألا تعتقد أن البنية الإدارية والهيكلية لهذه الوزارة هي مبعث هذا الصراع وخلق بؤر متنازعه بالداخل؟ نعم أنا أعتقد أنه لم يكن متوقعًا أن يزول الصراع بين يوم وليلة ولكننا سعينا للحد من أسباب الصراع وذلك بانتهاج الأسلوب المهني وتقديم قيمة الولاء للكفاءة على أي ولاءات أخرى في الوظائف لأن أحد أهم مسبِّبات الصراع «من الذي يتولى الوظيفة داخل الوزارة ؟» وهناك آخرون يرون أنهم الأولى بشغل هذه الوظائف نسبة لأنهم كانوا يعتقدون أنهم من «البدريين» مثلاً ولذلك من الأشياء التي لم نبلَ فيها بلاءً حسنًا هي إحسان الظن بالناس وكان كثيرون يقولون لي إن هناك مجموعات تعمل ضدك وضد توجهاتك المهنية التي تقودها ولكني في ذات الوقت كنت أظن أنه بطول المدة يمكن لهؤلاء أن يتحققوا من الإنجاز بفضل الخط المهني الذي ننتهجه وهذا في تقديري كنا ما نعوِّل عليه في إخراس هذه الأصوات ولكن فيما بعد تبين لي أن هذا الظن لم يكن في محله. ما حقيقة أن وزارة الصحة أسيرة تدخلات جهات نافذة؟ ما أقوله هنا وللتاريخ أنه طيلة فترة وجودي في وزارة الصحة لم تحدث أي تدخلات مباشرة من اي جهة إلا تدخلات داعمة للخط أو النهج الذي نقوده فلم يحدث أن جاءني شخص بمذكرة أو بتوصية شفاهية للتعيين أو لتحقيق مصلحة وهذا أقوله للتاريخ وأكررها لم يحدث أن جاءني شخص بتوجيه سياسي مخالف للخط المهني بل إن الذين كانوا يشتكون من وراء ظهورنا للمسؤولين في مؤسسة الرئاسة أو مؤسسات الحزب كانوا يعودون بخفي حنين عندما يطالبهم هؤلاء المسؤولون بالعودة إلينا في وزارة الصحة. إلي أي مدى أثرت هذه الصراعات على شكل وحجم وطبيعة الخدمات الصحية والعلاجية المقدمة للمريض؟ انا أقر بأنه كانت في الشهور الأربعة الأخيرة التي قضيتها في وزارة الصحة إشكالية مظهرها تنازع الاختصاصات بين شخصي ووزير الدولة آنذاك البروفيسر حسب الرسول بابكر وهذا أثر بشكل سالب على الأداء الكلي للوزارة حينها وصلت الى قناعة بالاستقالة من منصبي كوكيل لوزارة الصحة حيث تقدمت باستقالتي في أكتوبر من العام قبل الماضي لاعتقادي بأني قدمت ما عندي بصرف النظر عمّن يشغل منصب الوزير أو وزير الدولة ولكن لم تقبل هذه الاستقالة ولا أنفي أن فترة الأربعة اشهر الأخيرة التي ذكرتها كانت خصمًا علينا لأن كل القرارات التي كنا نتخذها كانت تكسر وتحجّم من قبل الطاقم الوزاري بل إن الصورة السالبة للصراع أثرت حتى على فهم الناس للصحة وما يجري فيها. يقال إنك أُجبرت على الاستقالة؟ لا.. أبدًا، أنا قبل المغادرة قلت بأني لا أريد أن أكون طرفًا في هذه المهزلة وكنت اشعر بأني أستطيع التحرك في كل الاتجاهات بعد أن قدمت رؤيتي لما يجب عمله في الصحة وقدمت الحلول واجتهدت فيها ولكن أن يحجّم الفعل أو أن اكون مكتوف الأيدي بسبب صراعات داخل الوزارة وصلت الى قناعة بأن المغادرة هي الأسلم. دكتور كمال كيف ترى واقع المؤسسات الصحية في السودان من حيث البنية والهيكل والذي يمكن أن تلعبه وإلى أي مدى هي قابلة للتطور؟ أعتقد أن مشكلة النظام الصحي في البلاد تكمن في عدم وجود جسم مركزي مسؤول عن التخطيط والتنفيذ خاصة أن هذا القطاع يحدث فيه تطور يومي في البنيات والتقنيات والهياكل والكوادر وضرورة المواكبة تقتضي أن يكون هناك جسم ينظر لهذه الأشياء بصورة كلية ويومية.. وكانت وزارة الصحة هي المقدم الوحيد لخدمات الصحة وكانت الدولة بإمكاناتها تستطيع أن تقدم ما يناسب ذلك الوقت. هل هذا يعني أن الدولة ليست لديها رؤية كلية تستوعب هذا التطور؟ صحيح، حدثت تطورات في الاحتياجات الصحية والتشخيصية والوقائية للمواطن وللأسف هذا التطور لم يواكبه تطور مواز بزيادة الصرف على الصحة مع غياب وجود جسم مركزي ينظر من عل لكل هذه القضايا ولذلك بدأت جهات أخرى تتدخل لتقديم خدمات الصحة كالقوات المسلحة والشرطة والقطاع الخاص والجامعات وهذا يعني غياب الصورة الكلية للصحة في مجالي التخطيط والتنفيذ وأنا أكاد أجزم أن المستشفيات التي انشأها صندوق القوات المسلحة لم تستشر فيها وزارة الصحة بل ان هناك مستشفيات أقيمت بينها وبين المستشفيات المركزية «شارع» وهذا مثال واضح في مدينة دنقلا بالولاية الشمالية. قد يكون هذا من منطلق سياسة تحرير الخدمة الصحية؟ لا ابدًا هذا يعني تعدد متخذي القرار في تقديم الخدمة الصحية، وكان من الأوجب توجيه هذه المستشفيات وفق خريطة كلية بحيث لا تكون هناك ثلاثة مستشفيات في منطقة واحدة ومناطق لا يوجد فيها حتى مركز صحي واحد ويحدث هذا في ظل غياب التخطيط المركزي والانتشار والتنسيق. إذن يا دكتور أين يكمن الخلل بشكل واضح في النظام الصحي في السودان وماهي الرؤية السليمة في تقديم هذه الخدمة؟ اعتقد أن الخلل الآخر في سياسات الدولة تجاه القطاع الصحي تكمن في ان معظم الصرف في هذا القطاع من موازنة الدولة موجه نحو العلاج فيما لم يحظَ الجانب الوقائي بهذه النسبة من الصرف، وحتى النجاحات التي حدثت في خفض معدلات الإصابة بالملاريا كانت بسبب الدعم الأجنبي والمكون المحلي فيها لا يتعدى 4% ومعلوم أن أموال الدعم الأجنبي هي التي تحدد ما تريد من أجندة وأنشطة وقد تتصادق شروط الأجنبي مع الثقافات والقيم والتقاليد المحلية، ولذلك اعتماد الصحة بنسبة كبيرة على الدعم الأجنبي يجعل من السهولة الوقوع في فخ الأجندة الأجنبية. وهناك خلل آخر يواجه القطاع الصحي وهو كيفية إدارة المال في هذا القطاع ومن الجوانب الأخرى في هذا الخلل أن أشياء كثيرة أوكلت للولايات دون إيجاد بنود صرف واضحة مثل صحة البيئة والرقابة على الأطعمة وهذه هي أسباب الأمراض وهي قضايا موكلة للمحليات بالقانون وهي لا تستطيع الصرف عليها بسبب انعدام الميزانيات الأمر الذي يؤدي لتفشي الأمراض، ولذلك على الدولة نقل المعركة إلى الوقاية وعمومًا أعتقد أن قلة الصرف على الصحة هي أساس الخلل، ولكن حتى المال المخصص هو مشوّه، وبسبب حقوق مكتسبة لا يمكن تغييره، والرؤية السليمة هي تحديد بنود إضافية للصرف على الصحة وتكثيف مشروعات الرعاية الصحية الأولية وطب الأسرة. ماذا قدم دكتور كمال عبد القادر من تصورات وحلول للخروج من مشكلات وعقبات القطاع الصحي وأوجه الخلل فيه إبان فترتك في الوزارة؟ اعتقد أن الفترة التي قضيتها كوكيل لفترة سنتين بهذه الوزارة وبالتعاون والدعم الذي وجدته من القيادة العليا استطعت أن أُرسي ركائز منهج مهني وعلمي أهم ملامحة إعادة تأهيل البنيات الصحية في كل السودان، وهذا المنهج واضح الآن من خلال شكل المستشفيات المركزية والولائية بالإضافة للمراكز الصحية وهو شكل مختلف وبمنهج مختلف يهدف إلى توسيع قاعدة الرعاية الصحية وإزالة كافة العقبات أمام وصول المواطن لهذه المؤسسات والعلاج المجاني للأطفال، ولو تحدثنا بالأرقام نجد أن أكثر من 400 مركز صحي ومستشفى ريفي تم تأهيلها خلال تلك الفترة وكانت أيضًا وزارة الصحة تشكو من إعداد الكوادر الصحية حيث إن النظام التعليمي في السودان ينتج حوالى «550» ممرضًا أو فنيًا في العام ولكننا أنشأنا أكاديمية العلوم الصحية والتي استوعبت حوالى «17» ألف كادر صحي وهي محاولة قصدنا منها معالجة النقص الكمي والنوعي في كادر التمريض وقمنا أيضًا بإنشاء السجل القومي للسرطان يعنى بتسجيل الحالات وتأسيس قاعدة بحثية وإحصائية لحالات السرطان حيث كان في السابق يتم التعامل بعلاج مرضى السرطانات في مركز أو مركزين فقط. وكيف تعاملتم مع ظاهرة الهجرة المستمرة للكوادر الطبية للخارج؟ هذه مشكلة حقيقية كانت تواجه القطاع الصحي فالتوسع الذي حدث في التعليم الطبي أصبح ينتج أكثر من 4 آلاف طبيب في العام، وكانت وزارة الصحة تستوعب منهم «90» فقط فيما لم توجد رؤية واضحة لتوظيفهم أو الاستفادة منهم بعد إكمالهم فترة الامتياز، ولذلك كان لابد من التفكير بشأن هؤلاء وإحداث طفرة كبيرة في إعداد المتخصصين حيث ارتفع عدد النواب إلى «3» آلاف و«700» بعد أن كان عددهم «700» فقط وهذه الزيادة تمت في سنتين فقط، وهذه القضية كان لهل إفرازاتها السالبة على القطاع الصحي من خلال الإضرابات والاحتجاجات وتأخر رواتب النواب بل سعينا الى فتح التدريب الخارجي بعد أن كان متوقفًا حيث ابتعثنا مجموعات الى مصر وتركيا وماليزيا وذلك للاستفادة من الاتفاقيات الموقعة بين السودان وهذه الدول، والقطاع الصحي الآن يجني ثمار تلك السياسة، ومثلما كنا قد وجدنا عدد المتدربين في تخصصات نادرة «4» والآن ارتفع إلى «40» متدربًا وهناك أيضًا تخصصات كالتخدير كان عدد النواب قليلاً جدًا تضاعف هذا العدد ثلاث مرات ولذلك هذه حلول طويلة المدى لمشكلات كان يمكن معالجتها منذ سنوات. نواصل...