لكلٍّ حزبه والنقابة للجميع، كانت هي النظرية الذهنية والفهم المتقدم الذي توصلت له كل الفئات والقطاعات في جانب التعاطي السياسي، هذا من المنظور السياسي، أما في جانب المنظور المهني المطلبي فقد جربت الفئات والقطاعات كل الطرق منذ العام 1985م وحتى الآن، بل وقبل ذلك، توصل الجميع الى صيغ متحضرة شكلت مرجعيات وأساسيات، فكانت المحصلة للتفاوض الجماعي صيغة المجلس الأعلى للأجور الذي تطور بدوره واستوعب كل ما يجري في الساحة العملية والمهنية. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن: لماذا ذهبنا بالقضايا خارج إطار هذه المنظومة العلمية التي اجتهد الناس في بنائها فهماً وتجربة وموضوعاً؟ السؤال الجوهري الآن بعد أزمة اضراب الأطباء: هل هؤلاء الأطباء عندما دخلوا وزارة الصحة للتدريب أُنشئت لهم وظائف؟ سؤال من ضمن أسئلة هامة توجهنا بها للدكتور كمال عبد القادر وكيل وزارة الصحة في حوار حول الأزمة الراهنة، فلنقرأ ما قاله حول هذا الملف: { منذ بداية الأزمة مع نواب الاختصاصيين وزارة الصحة قالت ما قالت ولكن ليتك تحدثنا عن آخر محطات هذا الصراع؟ - الوزارة لم تختَر الصراع إنما تعاملت مع هذه المسألة بمنتهى المهنية، فكانت هناك قضايا مطلبية تم التعامل معها حينما جاء هؤلاء الأطباء بمطالبهم، ورغم أن لجنة النواب هي ليست من الأجسام المنتخبة ولا التي لها صفة الشرعية، ولكن مع كل هذا تعاملنا معها باعتبارها جسماً يمثل شريحة من الأطباء مهمة، وأيضاً لأن لها مطالب شرعية، فأمّنا على ذلك منذ البداية وقلنا إن الأطباء لهم متأخرات في المرتبات والعلاوات ولذلك كان اهتمامنا بحل المشكلة المطلبية بالتعاون مع وزارة المالية ووزارة مجلس الوزراء والدولة في أعلى قياداتها، ونستطيع القول إنه خلال الشهرين الماضيين تم دفع متأخرات ومستحقات بلغت في جملتها أكثر من (14) ملياراً، تم دفعها بالكامل، وحتى عندما أضرب النواب في المرة السابقة كان هناك تفاهم بينهم وبين اتحاد العمال واتحاد الأطباء على بعض الزيادات وسعينا في أن تُنجز هذه الزيادات، وما استطاعت وزارة المالية أن تنجزه هنا تم بقرار من رئيس الجمهورية حتى يتم تثبيته، ولا يكون حلاً مؤقتاً، وأصدر رئيس الجمهورية قراره بهذه الزيادات وتم صرفها في نفس اليوم الذي صدر فيه القرار، فكانت مكافأة الأطباء للدولة هو الإضراب في نفس اليوم والخروج في مسيرة أدت للاشتباكات، فنحن نعتقد أن هذه أشياء يمكن علاجها، أما مسألة الخروج في مسيرات فهذا تصعيد لا مبرر له، والشيء الذي نراه الآن هو أن هناك نواباً ممتنعين عن تقديم الخدمة الطارئة، وهذه مسألة تعرض حياة المرضى للخطر، فليطالب الناس ما يطالبوا به وليعبروا عن استيائهم بكل الوسائل وليطالبوا بإقالتنا جميعاً ولكن يجب أن يبعدوا المرضى عن هذا الصراع، فمن حق أية فئة أن تضرب ولكن إذا أضرب المعلمون مثلاً فيمكن تجميد السنة وإذا أضرب المزارعون أيضاً على سبيل المثال فيمكن أن يستورد القمح من أقاصي الدنيا، ولكن أن يضرب الأطباء فهذه مسألة أنا لا أجد لها مبرراً مهما كان الظلم الذي وقع. { إذا قلنا إن القضية تفجرت في ظل أجواء سياسية بعينها تمر بها البلاد، وإن كان الشكل العام الذي بدأت به ولايزال هو شكل مهني، فهل المعالجات التي قامت بها الوزارة منذ بداية هذا الموضوع هي معالجات مهنية صرفة، أم أن هناك تأثيراً سياسياً من (المؤتمر الوطني)؟ - نحن نأخذ المسائل بظواهرها، فمن يتقدم إلينا بمطالب ننظر في مطالبه، وبالتالي إذا كانت مطالب مشروعة نعمل على إجابتها، ونترك تفسير الأشياء والغوص فيها لمحلِّلين آخرين، وهذا هو دور الصحافة ودور الإعلام.. أن تنظر في المطالب وتنظر في ما استجبنا إليه و(الحساب ولد). { الناظر للوزارة يجدها شكلاً ومضموناً هي ترجمة لبناء حكومة الوحدة الوطنية، فلماذا نجد الحركة الشعبية التي هي صاحبة الوجود الكبير في الحكومة السابقة وصاحبة الكرسي الأول السابق أيضاً في هذه الوزارة.. لماذا لم تتحرك الحركة الشعبية حتى الآن ولم تسهم حتى في إيجاد الحلول، وهي مرتبطة بالشكل الحكومي ارتباطاً وثيقاً لا يعفيها عن المسؤولية؟ - نحن نقول بأننا سعينا لأن نعالج هذا الإضراب بصورة مهنية، ذلك بالنظر إلى المطالب الشرعية، وللدولة مؤسساتها، وبالتالي فإذا خرج الناس في تظاهرة إلى الشارع فهذا ليس شأن وزارة الصحة، وإنما حينها تتولى الملف جهة أخرى، لكن إذا توقف العمل داخل المستشفيات يصبح ذلك شأن وزارة الصحة، فهي التي تحاول التغطية وسد الثغرة، لذلك نقول إن التصعيد يخرج هذا الملف عن يد وزارة الصحة، والمتضرر الأول هو المواطن، والمتضرر الثاني هو القطاع الصحي بكل مكوناته، سواء كان في جانب الوزارة أو جانب الأطباء أو كل الكوادر، فإذا فقد المواطن السوداني الثقة في القطاع الصحي يتضرر كما ذكرت المواطن والقطاع الصحي. { من الملاحظ أن هذه الوزارة منذ ذهاب نظام مايو وجعفر نميري، أي منذ العام 1985م وحتى الآن، ظلت من الوزارات المضطربة التي لم يهدأ لها بال، وظل يتناوشها الناس ويكثر حولها السؤال والقيل والقال، فلماذا هذا الحظ العاثر لهذه الوزارة.. ما الحكاية؟ - في الوقت الذي يرضى فيه الناس عن أداء الصحة يصبح ذلك هو الاستثناء، لأن حدود المطلوب من وزارة الصحة كبير، فلا يمكن أن تكون كل الأمة صحيحة كل الوقت، ففيما أن هناك مرضى وهناك احتمال للمرض يتوجب على الوزارة أن تسعى وأن تتحسب لذلك، فليست هنالك أمة ترضى عن وزارة الصحة، فلو رأيت مشاكل الرئيس الأمريكي «أوباما» الآن تجدها في الصحة، فهنالك أكثر من (42) مليون مواطن أمريكي خارج التغطية الصحية، وإذا نظرت لأسباب سقوط حكومة العمال فستجدها في أداء النظام الصحي، فتطلعات المواطن تزداد ولا سقف لما هو مطلوب في النظام الصحي، أما النقطة الأخرى فهنالك في مجال الصحة دائماً ما يُسمى بتضارب المصالح بين القطاع العام والخاص وبين الفئات المختلفة، فهناك فئات التمريض مع فئات الأطباء على سبيل المثال، وكذا الحال مع الفئات الأخرى، فهذه كلها ثنائيات ليست بالضرورة أن تكون كل مصالحها متفقة كل الوقت، ولذلك تنشأ مثل هذه الصراعات، ولأن قطاع الصحة هو بالطبع قطاع مستنير لا تظهر المشاكل وكأنها صراع بين طرفين ولكن تظهر في شكل إفرازات أخرى. { إذا قلنا - حسب التحليل الصحفي وتحليل الشارع - إن هناك صبغةً سياسيةً أو تأثيراً معيناً جعل الأمور تصل الى هذا الحد، فهل المسألة كانت بسبب نتائج الانتخابات التي جرت بالبلاد؟ - نحن لم نقل ذلك، وهذه ليست مهمتنا، وبالتالي فعلى الأحزاب وعلى آليات الدولة الأخرى أن تقرأ الأحداث بصورة أشمل وأن تفسر، ولكن نحن في الصحة نهتم بالنظر لظاهر المشكلة ونحاول أن نعالج أصلها، وبالتالي فإذا ما تم علاج جذور المسألة المطلبية ولم تتم الاستجابة من جانب المضربين فحينها إن كانت هناك تفسيرات أخرى تصبح واردة. { يقولون إن أصل المشكلة هو أن الراتب في الأساس ضعيف، كيف تردون على هذا القول؟ - وهل هناك شخص يعمل في القطاع العام يرضى براتبه؟ هذه هي إجابتي على هذا السؤال، فهناك اعتراض من كل الأطراف بوجوب إعادة النظر في الهياكل الراتبية، ولكن هذه المسائل لها آلياتها ولها طرقها ولا تتم بين عشية وضحاها، وليست هي مسؤوليّة وزارة الصحة، فهذه مسؤوليّة المجلس الأعلى للأجور ومسؤولية الاتحادات بأن تنظر في واقع الأجور الآن وتحدد المطلوبات وتقام لذلك الميزانيات، وبالتالي هذه ليست مسألة تتم بسبب إضراب أو بين عشية وضحاها. { حتى لا نظلمكم، ولا تقصم الأحداث المتسارعة ظهركم، فلا ينتبه الناس لآخر ما أنجزتموه في البلاد.. ما هي آخر الإشراقات؟ - أنا أعتقد أن ما حدث في تأهيل البنيات التحتية وبالذات في مشروعات مستشفى الخرطوم وأمدرمان والخرطوم بحري ومركز القلب في مدني، وقيام سبعة مراكز تشخيصية متقدمة جداً في سبع ولايات، إلى جانب أكاديمية العلوم الصحية التي تضم (15) ألفاً من الكوادر الصحية وقُصد منها إحداث النقلة الحقيقية في مجال الصحة العلاجيّة، وفي مجال الصحة الوقائية.. فأنا أسأل كل إنسان عن آخر مرة رأى فيها شخصاً يعاني من الملاريا، وكان من المفترض حسب إعلان أبوجا أن تنخفض نسبة الملاريا في السودان الى 50% بحلول العام 2015 ونحن حققنا هذا الرقم في العام 2009م، وفي مجال وفيات الأمهات أجرينا المسح في الشهر السابق وستظهر نتائجه في شهر يوليو، وأنا أؤكد هنا من خلال مؤشرات عديدة انخفاض نسب وفيات الأمهات والأطفال بسبب الأمراض المعروفة وذلك خلافاً للنسب المرصودة في العام 2006م، فنسب سوء التغذية في الوفيات ونسب الأمراض المختلفة المؤدية للوفيات في الأطفال قد انخفضت بنسب كبيرة ليكون المتبقي فقط هو جهد التوعية بالأمراض غير السارية، ونحن الآن نزيد في فعالية قسم الأمراض غير السارية، وهذه كلها أشياء لا تظهر للناس بين يوم وليلة، ولكن تبقى هي المؤشرات الحقيقية لأداء النظام الصحي، لذلك فالمطلوب منا كثيرٌ في الحقل الصحي، ولهذا أقول إن نسبة النجاح في النظام الصحي أن تحرز مائة في المائة، وبما أنك لا تستطيع أن تحرز هذه النسبة فستظل غير راضٍ، وبالتالي حتي في الأيام العادية فنحن غير راضين عن أداء النظام الصحي ولكن هذه هي مسألة نسبية. { بالرجوع للمشهد والحدث فنحن نعلم أن أطباء كثيرين اتصلوا بكم كوزارة وأعلنوا استعدادهم للعمل وسد النقص.. ماذا عن الموقف هنا؟ - حقيقة لقد أعلن الكثيرون استعدادهم متى ما دعت الحوجة لهم، مع العلم أن ثورة التعليم العالي قد وفرت لنا أكثر مما نحتاج، ونقول هنا إن تغطية الحوادث والعيادات المحولة والباردة لم تتأثر بالاضراب وتسير كما كانت في الأيام العادية بفضل تحريك أطباء من أماكن كثيرة واستنفارهم، كما أن الأطباء الذين فصلتهم ولاية الخرطوم سيعودون بالضرورة للوزارة الاتحادية وسيخضعون لخيار إعادة توزيعهم لولايات أخرى أو إنهاء تعاقدهم.