يظن بعض البسطاء أن استقلال الشعوب والحكومات يتمان برفع علمٍ من القماش يصمم للرمز به أو بمجموعة وطنية تصعد على دسة السلطة لتكتمل المعاني لما يهتف به المواطنون ومن أجله يجاهدون لنيل الحرية وفك الإسار الذى لفه على الأعناق المستعمرون. ولو كان نيل الاستقلال يتحقق هكذا، لأطلقنا على جميع الشعوب فى قارات العالم، أنها قد تحررت وملكت إرادتها، وتمكنت من إدارة شأنها، ولكن الواقع يقول قولاً آخر، حيث رحل المستعمر، وقفز إلى السلطة فى معظم بلداننا رجالُُ ُ ونساء من بنى جلدتنا، ويحملون جنسياتنا، غير أنهم مستعمرون فى دواخلهم، يقلدون المستعمر فى أعرافهم، وينحنون له عندما يأمر، ويخافون منه إذا زمجر، وترتعد فرائصهم منه عندما يطلق صواريخه مستبيحاً بطائراته جميع الأجواء. والاستقلال بالمعنى الصحيح للاستقلال، قد أصبح لا يرتبط بأعلامٍ ترفرف ولا بوزارات يتم تشكيلها ذلك لأن المستعمر قد ابتكر وسائل جديدة بموجبها يتحكم فى الشعوب، فيمنع عنها الغذاء، ويحرم عليها السفر، ويمنع طائراتها من التحليق، ويحظر على حركتها الاقتصادية، فتصاب الصادرات بالبوار، ويمتنع على الدولة الاستيراد. وعندما نحتفل اليوم بمرور 56عاماً على استقلال بلادنا، فإن أعناقنا تطوقها قلادات الشرف، بأننا لم نمد أيادينا لمستعمرٍ، لتكون نتيجة ذلك، مصادرة للإرادة الحرة، وخضوعاً للسياسات الأجنبية. ولا أحد يدعى أننا قد استخرجنا من باطن الأرض الثروات بفعل تنازلٍ عن مبدأ أو عقيدة، كما لا أحد يزعم بأن القضاء على الندرة والضعف البنيوى فى مشاريعنا قد حدثا نتيجة لقروضٍ ربوية، أو لبيع دين بدنيا، وإنما الذى حدث كان يتقدمه الصمود فى وجه الأعادي إلى درجة أنهم أغلقوا سفاراتهم، وحرموا طيراننا من الهبوط فى عواصم الظلام، ولم نقدم لهم دعوة ليعودوا تارة أخرى، لكنهم شعروا بأن ما يريدونه من استعمارٍ بلى الذراع، وممارسة الضغوط، لم يثمر سوى المزيد من المقاومة، والتعويل من قبل السودان على الجبهة الداخلية، والإيمان المتوغل فى القلوب. ولقد كانت تلك هى علامات بل مضامين الاستقلال الحقيقي الذى يستحق أن نضيف إليه المزيد، ولا يتم احتفالنا بالاستقلال الكامل إلا إذا وفقنا الله سبحانه وتعالى فى تطهير القلوب التى رانت عليها سحب العمالة والارتزاق، إذ لا يتفيأ شعبنا تحت ظل دوحة الاستقلال، إلا إذا نجحنا فى اجتثاث بذرة الشر التى خلفها الاستعمار، وتلك البذرة متمثلة فى عناصر ما تزال عقيدة المستعمِر مسيطرة على نواياهم، وهى التى تجعلهم يتمردون ويتآمرون، ويقبضون الثمن من المنظمات والسفارات. ولا يحسبن أحدُُ بأن معركة الاستقلال قد وضعت أوزارها، لأنها تتلون فى زماننا هذا كما تتلون الحرباء. والذين يتلونون وسط مجتمعنا، ويخضعون لتعليمات الاستعمار، تعرفهم من لحن القول، وزيغ التصريح الذى لا يخفى على عاقل منا، وهو مرة داخل الأسوار ومرة أخرى خارجها بملتقيات صممت خصيصاً ليسبح بحمد الاستعمار أثناء انعقادها الكثير من العملاء أعداء إرادة السودان الحرة، واللاهثين وراء عودة الاستعمار من جديد.