التهنئة القلبية الحارة للشعب السوداني الأبي بحلول العام الجديد، نسأل الله أن يجعل الخير والسلام في مشرفه ومنتهى قدومه.. كل عامٍ ونحن في السودان نحتفي في الأول من شهر يناير بحلول ذكرى خروج الجيش الانجليزى من السودان، ونسمي هذه المناسبة بالاستقلال، ونردد فرحين أهازيج مثل «يا غريب يلا لبلدك».. «واليوم نرفع راية استقلالنا ويسطر التاريخ مولد شعبنا» إلى آخر الأهازيج التى نظمها شعراؤنا فرحين بأيلولة الحكم لأبناء السودان؟ فهل نال السودان استقلاله الحقيقي؟ أو بمعنى آخر هل حقق السودان أهداف وفلسفة الاستقلال المعروفة? مع مراعاة أنه يجب ألا تخرج الإجابة عن هذه الأسئلة عن إطار الصورة الزاهية التى ما فتئ بعض الذين عاصروا حقبة حكم الإنجليز للسودان وشهدوا على حسن الإدارة التي كانوا يُسيرون بها الشؤون العامة، يرددونها ويُحنون إليها، بل وصل الأمر بالبعض إلى أن تمنوا ألا يكون الإنجليز قد خرجوا من السودان بعد أن شاهدوا ما آلت إليه الأوضاع فى البلاد، خاصة في مجالات التنمية والخدمة المدنية وإصحاح البيئة ورد المظالم إلى غيرها من الشؤون، لأن ما سيبدو في هذا الإطار يُنغِّص كثيراً من مزاج الفرحة بالاستقلال عندما نُجري مقارنةً سريعة ب?ن الوضع في ذلك الزمان وراهننا اليوم بعد مضي أكثر من خمسين عاماً على الحدث المذكور. وحتى نجيب على السؤال عاليه، وقبل أن نسترسل فى الاحتفالات البلهاء عاماً إثر عام، ينبغى أن نُدرك أولاً ما هو المعنى الحقيقي للاستقلال؟ المعنى الحقيقي لفكرة الاستقلال هو أن تؤول مقاليد الحكم في بلادنا من المستعمر أياً كان اسمه إلى أبنائنا الذين سيُحسنون التصرف في مُقدَّراتنا، والذين ستكون قلوبهم معلقةً شغوفاً بحبه وحب أهله، فلا يميلون لعرقية دون أُخرى من أهليهم ويحكمون بينهم بالعدل.. ولا يتركون فرصةً إلا واهتبلوها في سبيل ترقية الحياة والعمل بإخلاص للحفاظ على اللُحمة الوطنية وتمتين حبائل النسيج الاجتماعى والح?اظ على حدود البلاد وسلامة أراضيها من الاعتداءات. الاستقلال يعني الإنجازات ومعيارها الحقيقي هو أن نأخذ مكاننا بجدارة وسط منظومة دول الإقليم والعالم، وأن يحذر الجميع السودان فلا يجرؤ كائن من كان على التعدي على شبرٍ من أراضيه أو تجاوز حدوده أو اختراق مجاله الجوي دون إذن مسبق.. وهو أيضاً أن نأخذ مكاننا بجدارة فى الأسواق العالمية للمحاصيل الزراعية ومنتجاتها الصناعية، وأن نحتكر عنوةً واقتداراً أسواق اللحوم والماشية في الشرق الأوسط.. وأن تكون لدينا الكلمة العليا على مستوى دول إقليمنا، أما تلك الدول في تلك القارات البعيدة فينبغي أن تنظر إلينا باحترام.. وأن نوطن?العلاج بالداخل فعلاً لا قولاً، وأن نُصنِّع الدواء.. وطالما يشهد واقعنا اليوم أننا لم نحقق مثل هذه الإنجازات كلها أو معظمها، سيظل الاحتفال بعيد الاستقلال ملهاة تصرف الناس عن حقيقة الاستعمار الذي يعيشون تحت نيره ويتدثرون بغطائه منذ الخمسينيات، وهو استعمار بدون مستعمر على غرار طائرة بدون طيّار، ففي آخر الأمر هو استعمار تعددت مسمياته لكن الأثر هو ذات الأثر، واستمرار الأوضاع بالغة التعقيد التى نعيشها اليوم. ومن المفارقات المدهشة التى لا تحدث إلا في السودان، أن المستعمر الذي نتغنى بنيل استقلالنا من حكمه هو الذى أقام مشروع الجزيرة مثلاً الذي يُعد من أكبر المشروعات فى أفريقيا، وعجزت بعد خروجه كل الحكومات الوطنية المتعاقبة عن أن تنجز مشروعاً واحداً يُماثله، بل إنه خرج من السودان لبلده تاركاً مساحة السودان مليون ميل مربع لا تنقص متراً واحداً، وترك العملة السودانية تعادل ثلاثة دولارات ونصف الدولار، لقد خرج الإنجليز وتركوا نظاماً محكماً فى إدارة شؤون البلاد بدءاً من الخدمة المدنية والبيئية ووسائل المواصلات والاتصالا? إلى أدنى ما يحتاجه المواطن في شؤون حياته اليومية، ويمكن أن نُجمل بأنهم تركوا إنساناً سودانياً مُفعماً بأهميته جرّاء ما كان يلاقيه ويُحظى به من اهتمام توليه له الدولة التي كانت تسهر على شؤونه. فلننظر لحال السودان بعد خروج المستعمر قبل أكثر من نصف قرن ونُقارنه بحاله اليوم، ولنر ما طرأ عليه من تغيير، وهل كان للأفضل أم إلى الأسوأ؟ لنكن على دراية بحقيقة استقلال بلادنا، لقد تقلَّصت مساحة الدولة السودانية من مليون ميل مربع إلى أقل من الثلث، بسبب انفصال الجنوب واحتلال مصر لمثلث حلايب واحتلال إثيوبيا لأرض الفشقة، ولم يشهد السودان وقتذاك تهتكاً فى نسيجه الاجتماعي مثل الذى يعيشه اليوم، أما بخصوص الاستغلال الأمثل لموارده الثرية فحدث ولا حرج، فبدلاً من أن نُصدِّر للعالم الغذاء أصبحنا من كبار المستوردين له، ?ما في مجال الفنون والرياضة فقد ظللنا نتذيل المنافسات الإقليمية والدولية كل عام، وأصبح اسم السودان ملطشة «للي يسوى واللي ما يسوا» أما فى مجال الفساد فتفوقنا فيه على أنفسنا وتقدمنا ركب الأمم، أما ذروة ما يتشوَّق له المستقلون دوماً وهو الاحتكام إلى منهج الديمقراطية فى الحكم وإشاعة الحريات العامة، فإن قطراً عمره الاستقلالي خمسين عاماً ظل يُحكم لمدة «45» عاماً منها بواسطة حكومات عسكرية قابضة مسدودة الأفق، تعني ببساطة شديدة أن هذا الاستقلال كأنه لم يكن، وأنه كقبض الريح لا أكثر ولا أقل . فشتّان بين الاستقلال الحقيقي ووقوعنا أسرى بلا فكاك في قبضة عوزنا المستمر لكل ما نحتاج إليه إلى الخارج الذى يتحكم فيه ذات المستعمر الذي تغنينا بطرده، فلا استقلال طالما كنا بحاجةٍ لكل ما ينتجه «المستعمر»، ولا استقلال طالما لم نتفق على دستور دائم مُتراضٍ عليه ينظم ويضبط شؤون حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويكفل عدم المساس بالحريات وصيانتها من أي اعتداء، ولا استقلال طالما مازلنا نرسف فى قيود الفساد وقهره، وأخيراً وليس آخر، لا استقلال إلا بحل قضية الحرب الأهلية المتطاولة في السودان حلاً لا عودة بعده ?لى الحرب، وعندها فقط سيطيب لنا الحديث عن الاستقلال. [email protected]