عقب إدلاء الرئيس البشير وبعض أفراد أسرته بأصواتهم في الانتخابات الماضية وذلك بمدرسة «سان فرانسيس» بالخرطوم، لمحتُ الوزير أسامة عبد اللّه وهو يغادر المكان في هدوءٍ تام فأسرعت نحوه وكان حينها يحاول إزالة حبر الاقتراع من إصبعه ولحق بي زميل آخر حاولنا استطلاعه إلا أن الرجل كعادته تحصن بخندق الرفض وقال: «أنا زول مسكين أمشوا أسألوا زول غيري» وزاد: «إنتو عينكم في الرئيس تاني شنو» وزرع علينا ابتسامة عريضة وهو ممسك بكتفي».. وهكذا هو أسامة يبدو عليه التواضع حتى في ملبسه رغم أن الرجل مطالب بالتقيُّد بمنصبه الوزاري!! لكن صمته وبعده بقدر الإمكان عن الأضواء على سبيل المثال في حفل تعلية خزان الرصيرص حاصره الصحافيون مما اضطره للإدلاء بتصريح مغتضب وابتعد عن المكان وترك الأمر للوزير أحمد الحضري لكن بالمقابل يشكِّل أسامة حضورًا قويًا في أماكن أخرى بعيدة إلى حدٍ كبير عن عيون الإعلام والرجل يخوض سلسلة طويلة من المعارك مع مسؤولين كثُر حتى يخال لك أنه يضع رأيه في خانة (القداسة).. وقد تكون مسألة عدم التراجع عن القرارات لازمته منذ توليه مهام الشرطة الشعبية والخدمة المدنية عندما كانت الإنقاذ في طور التمكين، ويرى بعض من عمل معه في أوقات سابقة أن أدب التنظيم الذي يجبرك على توقير القيادة وإطاعة أولي الأمر مكّن أسامة من المضي قدمًا في طريق (عدم التراجع) عن أي قرار وزاد من ارتياحه لذلك الجو الذي ظل يعيش فيه إلى الآن، وقضية المناصير خير مثال هو اعتماده في توليه لمؤسسات تنظيمية أو تنفيذية على مجموعة محدَّدة من الرجال ينقلهم معه حيثما ذهب حتى كاد يوطن لمفهوم «الشللية» واستشرت تلك العادة وسط الإسلاميين وصار أسامة رائدها.. وفي أيام الإنقاذ الأولى يذكر الإسلاميون أنه كان شبه مقيم في منزل د. الترابي ومشرفًا عليه وينفذ «كل» متطلبات الشيخ. والمتابع لمسيرته يلحظ أنه لم يسمع في حياته كلمة (لا) أو هكذا يبدو وتمثّل ذلك في خوضه لمعارك ضارية ومع قوة حجة من وقفوا في وجهه في كثيرٍ من الأحيان تجد أن رياح الخسارة لم تهب على دياره قط حتى بات الأمر محيِّرًا مثل ما حدث مع والي الشمالية الأسبق ميرغني صالح، ومع والي نهر النيل الأسبق غلام الدين عثمان، ومع مدير الكهرباء الأسبق المهندس مكاوي العوض عقب دخول وخروج كهرباء مروي في الشبكة القومية ما أحدث ربكة وقاد ذلك لنشوب أزمة بين وحدة السدود والهيئة وكانت النهاية إقالة مكاوي بقرار جمهوري ولم يتقدَّم باستقاله حسبما أشيع حينها في أغسطس 2009 ثم خلافه مع والي الشمالية الحالي فتحي خليل تقدَّم على إثره نائب خليل ووزير الاستثمار البروفيسور محمد سعيد حربي باستقالته أيضًا، وعزا ذلك لتمدّد أسامة ووزارته على أراضي الولاية، وشنَّ هجوماً عنيفاً عليه، في مؤتمر صحفي واتَّهمه بالتصرُّف في أراضي الولاية ومنحها لمستثمرين دون مشورتهم، وقال: (أسامة ما أفضل مننا ليقول الأرض دي حقتي وأنا أعطيتها لمستثمرين).. وذات الأمر ساقه خليل الذي اتهم أسامة بالتصرُّف في أراضي الولاية دون الرجوع إليها، وهدَّد بشكواه لرئيس الجمهورية. والواضح أن أسامة يستهوي الدخول في المعارك أو يستلذّ بهكذا أمر من خلال تجاوزه للمؤسسات ذات الصلة بوزارته إذ لا يكلِّف نفسه بالتنسيق معها ونذكر قطع وزارته لغابة الفيل بالقضارف لإنشاء مطار لتسهيل الحركة إلى سد ستيت ما تسبَّب في خلافات بينهم وبين الغابات، وكان منطق الأخيرة أن الغابة محجوزة بقرار رئاسي ولا يمكن قطعها إلا بعد إجراء دراسات بيئية الأمر الذي لم ترضخ له السدود ووزيرها ما اضطر مدير الهيئة د. عبد العظيم ميرغني بالتقدّم باستقالته احتجاجاً على ما سمَّاه بالقرارات الاستعلائية والفوقية ووصف ما جرى في حديثه للزميلة (الأخبار) بأنه «طناش شديد». إلا أن الصراع الخفي بين أسامة والوالي والوزير الأسبق الحاج عطا المنان هو صراع من نوع خاص فجميع من ذكرناهم والذين هم أكثر تأهيلاً وتعليمًا وخبرة من أسامة لا يشكلون خطورة على مستقبله السياسي ووجوده في ملعب العمل العام مثلما يأتي الخطر من الحاج لجهة أن الأخير يملك المال ومن الممكن جدًا أن يقوي نفوذه حال وجد السلطة وليكون الرجل الأول في الشمالية التي ينحدر منها أسامة من منطقة مساوي حتى ولو كان الحاج في منصب بالمركز ولذلك اندهشت اللجنة المكوّنة من خمسين عضوًا بالمؤتمر الوطني والتي كانت مكلَّفة بتنقية مرشحي الحزب الخمسة للدفع بأحدهم لمنصب الوالي ولاحظ الجميع معارضة أسامة وبشدة لترشيح الحاج رغم مباركة الجميع له ومساندته لعادل عوض فاضطرت اللجنة لإبعادهما واختيار طرف ثالث هو فتحي. مع متغيِّرات الأوضاع بات من الصعوبة بمكان استمرار أسامة على عرش إمبراطورية العناد والسطوة سيما أن الأمر أخذ أبعادًا أخرى حال النظر في قضية اعتصام المناصير والتي قد تنطبق عليها رؤية المعارضة القائلة: «إن التغيير قادم من الولايات وليس المركز».