والكحُولُ، سائلٌ ينتجُ عن التخمير، كانت العرب تسميه «الغَوْل» بفتح الغين وسكون الواو، والغولُ السُّكْرُ، كنايةً عمَّا يتسبب في السُّكر في الخمر خاصَّةً، وفي القرآن الكريم، حين نفى الله تعالى عن خمر الجنَّة صفة الإسكار، قال تعالى «لا فيها غولٌ ولا هُم عنها يُنزِفون»، أي أنها بالتعبير الحديث خاليةٌ من الكحول.. ولكن الذين يصنعون الخمر لا يفعلون ذلك بإضافة الكحول إليها، فالكحول ليس بالمادة التي توجد مستقلَّةً في الطبيعة حتّى تُضاف إلى الأشياء، وإنما هي نتاجُ تفاعُلٍ طبيعي، تتولّى كبرهُ بكتيريا التخمير التي تحوِّلُ السكَّر في الوسط الذي توجدُ فيه إلى كحول، في حال توفُّر ظروف معينةٍ «زمان حرارة تركيز محدد من السكر.. تركيز محدد من الملح».. صبراً أيها القارئ، أنا لا أنوي أن أقدم درساً في الكيمياء، فقط أزعجتني لوحات الإعلان التي ملأت طرقات العاصمة، مبشرةً المستهلك العزيز بمشروباتٍ لذيذة، تتمتع بصفةٍ مفصليَّة، هي كونها «خاليةٍ من الكحول»!!.. أغلب الظن، أن الشركات المحترمة المنتجة لتلك المشروبات الجديدة «والتي لم يسبق أن أعلنت أن عصير البرتقال أو مشروب البيبسي أو مشروب الأناناس خالٍ من الكحول»، رأت ضرورةً ماسَّةً للإعلان عن أن هذه المشروبات الحديثة بالذا، خاليةٌ من الكحول!! لماذا يا تُرى؟؟ ومن الذي جادلها في الأمر؟؟ الراجحُ لدينا، هُو أن تلك الشركات رأت أن مشروباتها الجديدة، اللذيذة، تتمتع بمزايا تجعلها أقرب شبهاً إلى مشروباتٍ أُخرى لا تخلو عادةً من الكحول، فأرادت أن تقطع الطريق على من يسيئون الظن، قائلةً بصوتٍ جهير، ولوحاتٍ جذابةٍ على الطرقا، ما معناهُ: «أيها الناس، والله العظيم هذه المشروبات ليست خمراً، ولن يجلدكم أحد إذا شربتموها!!». وبالطبع فإن هذا التقرير والتأكيد بخلو تلك المشروبات من الكحول، هو في النهاية مجرد «كلمة شرف»، إذا أنت لم تصدقها فعلى كيفك، ولكن ليست مصحوبةً بأية شهادةٍ رسمية من معملٍ معترف به، أو جهةٍ موثوق بفتواها، وإنما هي توضيحٌ إعلانيٌ من الشركة المنتجة، لا يتضمن إلاّ عيباً صغيراً، صغيراً جدّاً في الواقع، هُو تجاهُل الشركة التام لإمكانية حدوث تفاعلات في مشروبها ذاك، تجعلُ وجود الكحول ممكناً، في تاريخٍ لاحق، إذا ما تسللت قبل، أو أثناء، أو بعد التعبئة، بعض عناصر «الكوماندوز» من بكتيريا التخمير.. وعليه فقد كان الأجدى والأكثر أمانةً ودقَّةً، أن تؤكد الشركات المنتجة لتلك المشروبات أنها «خالية من الكحول ساعة إنتاجها» وليس بعد ذلك .. لا أدري، في الحقيقة، كيف تؤخذ عبارة «خالٍ من الكحول» من وجهة النظر الشرعيَّة، خصوصاً أن لغة التشريع الإسلامي، طوال تاريخها، لم تتطرق إلى وصف الخمر بالإحالةِ إلى مقدار ما تحتوي عليه/ أو لا تحتوي عليه/ من كحول، وإنما كان التمييز الفيصل للخمر عمَّا سواها من مشروبات، هُو قدرتها على الإسكار، حتّى ولو لم يكُن المُسكِرُ مما يتخذ منهُ الخمر عادةً، مثل اللبن الرائب مثلاً، وقد تأسس هذا الفهم على الحديث النبوي المجمع على صحته: «ما أسكر كثيرهُ فقليلُهُ حرام» والحديثُ المرجعيُّ هذا لم يتطرق لا هُو ولا غيرهُ من أحاديث أو آيات تحريم الخمر إلى نسبة الكحول في هذا المشروب الذي يحرم قليلهُ إذا أسكر كثيره، فماذا يرى أهل الذكر، في اتخاذ الخلو من الكحول معياراً لكون المشروب خمراً أو غير ذلك؟؟ خصوصاً أن الخلو المطلق من الكحول بالنسبة إلى المخمّرات أمرٌ بالغ العُسر، فالخلو المشار إليهِ هو، بلا ريب، خلوٌّ نسبيٌّ، بمعنى أن نسبة الكحول الموجودة ليست مما يحوِّلُ المشروب المعنِيَّ إلى خمرٍ أو يجعلهُ مُسكراً. في إحدى بقالات العاصمة، يبدو أن قوارير أحد تلك المشروبات المكتوب عليها «خالية من الكحول» والموضوعة عند مدخل البقالة، قد بقيت تحت الشمس لبضعة أيام، هذا مجرد استنتاج مني، لأنني عندما أخذت بضعة قوارير منها وذهبتُ بها إلى البيت، فوجئتُ وأنا أفتح إحداها بزبدٍ فوَّارٍ ورائحةٍ نفاذة، ذكرتني بتلك الرائحة التي كنا نجدها قبل عام ثلاثة وثمانين من القرن الماضي، عندما نمرُّ أمام الحانات التي كانت تملأ أسواق العاصمة، لا أدري على وجه الدقَّة ما إذا كانت الرائحة تصلُحُ شاهداً، ولكن ما لا يستطيع أحدٌ أن يجادلني فيه، هو أن تلك الرائحة النفاذة ليست رائحة شيءٍ خالٍ من الكحول. أتمنّى أن تهتم الدولة بفحص كثيرٍ من الأشياء، ليس أولها ولا آخرها تلك المشروبات المكتوب عليها «خالٍ من الكحول».