نذكر جيداً ذلك التلاحم الجماهيري الذى حظيت به ثورة الإنقاذ عندما بشرت بمبادئ، وحثت على الجهاد، حيث كانت صيوانات زاد المجاهد تنصب فى مختلف الميادين والشوارع بالعاصمة وجميع الأقاليم، ولم يكن وقتها يستمتع الشعب بذات الخدمات والتسهيلات التى ينعم بها الآن، فلا الكهرباء كانت بحالتها الممتازة الراهنة، ولا السلع الغذائية بذات وفرتها الحالية، ولا الطرقات المسفلتة كما هي الآن. أما الاتصالات وغيرها من معالم التطور، فكانت بمثل أضغاث الأحلام أو كضرب من ضروب الخيال، والشاهد أن مشاركة الشعب متلاحماً مع قياداته فى تلك الآونة، لم يربطها أحد بإنجازٍ مادي، لأن الجميع كانوا على قلب رجلٍ واحد، تشدهم المبادئ وتدفع بهم القيم نحو الانحياز لما كنا نسميه المنهج الحضاري، لإحساسهم بأن قيادتهم معهم فى المقدمة، وليست فى المؤخرة، ولإيمانهم بأن الجميع فى الهم سواء، لا فرق بين وزير وخفير وعامل للكنس في الطرقات. وأذكر أن الخرطوم العاصمة، وكذلك أم درمان، والخرطوم بحري، كانت مقسمة إلى عددٍ من المجالس المحلية، وليس الأمر كما هو الآن مركزة للسلطات فى معتمديات مترامية الأطراف، الأمر الذى جعل كل القيادات المحلية تشارك فى صياغة القرار وتحريك الجماهير، وإقناعها بضرورة المساهمة فى مواجهة التحدي وتحمُّل أعباء البناء. ولا يشك امرؤ منا أن الإنجاز الحالي، فى مختلف أوجه الحياة، ثمرة المجاهدات الأولى ونتيجة الهمم العالية التى قادت المسيرة فى تلك الظروف القاسية المليئة بالعقابيل، والمتسمة بالكثير من التعقيدات. والانجازات المادية التى نراها اليوم رأي العين قد تحولت الى مجرد إنجازٍ، يمكن أن يضطلع به العلمانيون والشيوعيون، وغيرهم من أصحاب المذاهب الأرضية، بمثل ذلك الإنجاز الذى حققه حسني مبارك المتمثل في المدن الإعلامية والصناعية وخطوط الأنفاق المخترقة للأرض المصرية لتسهيل النقل والمواصلات، وأيضاً هو بمثل الإنجاز الذى حققه العقيد القذافي فيما يسمى بالنهر الصناعي، وما بذله فى تخفيض أسعار سلع الغذاء للشعب الليبي. ولكن عندما يكون الإنجاز هكذا مجرداً من استصحاب حركة الجماهير وقناعات الأفراد، يكون ذا مردود سالب، مهما تمثل فى ناطحات للسحاب، أو صناعات قادرة للتنافس، أو رفاهية يسيل من أجل نيلها اللعاب. وأن القناعة كما يقولون كنزٌ لا يفنى، لذا فإن الشعب عندما يقنع بقيادته، ويؤمن بأنه مشارك طوعاً وليس مجبراً كُرهًا، فإن الإنجاز لمصلحته مهما كان متواضعاً يثقل وزنه فى حسابهم، ويكبر تقديره فى نفوسهم، فيتولد عن ذلك الإحساس البذل على مضاعفة الجهد، والعمل بعيداً عن التأثير الذى يجلبه الخذلان والمخذِّلون. وفى لقاءٍ لنا مع السيد والي ولاية الخرطوم لم يكن التبخيس هو الذي طغى على مداولاتنا معه، ولكن الملاحظة الجديرة بالاعتبار من الوالي وغيره من مسؤولي المركز، أن يعودوا تارة أخرى إلى جمهورهم، وألا تتمركز إداراتهم فى مقرات بعيدة، وألا يوسدوا الواجب لغير أهله، استعانة بمعايير التكليف والانضباط وذلك كله ليكون التلاحم الجماهيري والمشاركة فى إرساء دعائم اتخاذ القرار هي الأساس الذي ينطلق منه الإنجاز ليحظى بالتقدير والاحترام، بمثل ما كان حالنا هكذا في سابق الأيام وما انصرم من سنوات أوائل من عمر ثورة الإنقاذ.