العامل الأساسي في فشل إقرار دستور دائم للبلاد على أساس المنهج الإسلامي في جميع العهود الديمقراطية هو عامل الأحزاب التقليدية القائمة على الزعامات الدينية الموروثة والطائفية، وأعني طوائف الختمية والأنصار والطوائف المتحالفة معهما، فهذه الطوائف قامت على أساس ديني صوفي ما عدا الأنصار الذين قامت ثورتهم بقيادة الزعيم محمد أحمد المهدي لإقامة دولة إسلامية على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بعد هزيمة الدولة الإسلامية ومجيء الاستعمار تغير نهج الأنصار فتحولت إلى طائفة دينية كغيرها وكل هذه الطوائف الدينية أسلمت قيادتها لرجال تخرجوا في المؤسسات التعليمية التي أنشأها الاستعمار واصطبغت أفكارهم بالأفكار العلمانية اللادينية بل منهم ماسونيون حتى النخاع وهؤلاء الذين صُنعوا على أعين الإنجليز هم الذين أجهضوا جميع الجهود التي بُذلت لإقرار دستور إسلامي دائم للبلاد وحاربوا دعاة الإسلام باللسان دون السنان.. وأنا أشهد أن الإمام الشهيد الهادي المهدي كان ممن يؤمنون بالدستور الإسلامي الكامل رحمه الله فما موقف أتباعه اليوم؟ بعد انقلاب مايو أوجس الناس خيفة من أن تقع البلاد في قبضة الشيوعيين والناصريين الذين تحدثوا عن الشرعية الثورية ومعناها تصفية المعارضين جسديًا وفعلاً وقعت كارثة الجزيرة أبا وود نوباوي لتصفية القيادات الإسلامية ليخلو الجو لهم وحدهم ليهلكوا الحرث والنسل ويعيثوا في الأرض فسادًا كما فعل أشياعهم في البلاد التي وقعت تحت قبضة الشيوعيين والبعثيين والناصريين ولكن الله سلم حيث قام الشيوعيون بانقلاب فاشل في يوليو «1971م» وانتحروا بمحض إرادتهم واطمأنّ الناس قليلاً بعد إزاحة الكابوس الشيوعي المقلق فلم تقم لهم قائمة بعد ذلك. بعد ابتلاءات تعرض لها الرئيس نميري الذي لم يكن شيوعيًا ولكن الشيوعيين والأحزاب اللادينية من ناصريين وبعثيين أرادوا له أن يكون مثل محمد نجيب رحمه الله يوظفونه لمرحلة ثم ينقلبون عليه ولكن الرجل تغدّى بهم قبل أن يتعشوا به فتخلص منهم.. ورويدًا رويدًا اتجه النميري إلى الدين واعتصم ببعض الطرق الصوفية التي اعترف بأن لها دورًا بارزًا في هداية كثير من الناس ممن كانوا يحاربون الإسلام فكرًا ومنهجًا وحتى عبادة. في بدايات العقد السابع من القرن الماضي وضعت حكومة مايو دستورًا فيه بعض الملامح الإسلامية بجهود من الرشيد الطاهر ودفع الله الحاج يوسف وعمر الحاج موسى ومعارضة منصور خالد وشرذمته.. وكان هذا الدستور رغم ملامحه الإسلامية لا يلبي طموحات الحركة الإسلامية فاستمرت الحركة الإسلامية في مصادمتها لنظام مايو حتى تتحقق مقاصد الإسلام الكلية ولو درجة بعد درجة.. وفي هذه الفترة ازدادت اتجاهات الحكومة إلى مظاهر الدين وأشكاله فمن الاحتفال بميلاد لينين مؤسس الشيوعية في أبريل «1970م» في ميدان عبد المنعم الذي كان ميدانًا للاحتفال بالمولد النبوي الشريف بدأ النظام الاهتمام بالمناسبات الدينية ووجه منسوبيه بالاحتفال بمقدم شهر رمضان والإسراء والمعراج والمولد النبوي ونقل صلاة الجمعة وحرص الرئيس النميري على حضور كل هذه الاحتفالات بنفسه.. ولأول مرة أنشأ وزارة الأوقاف والشؤون الدينية تقلدها المغفور له بإذن الله عون الشريف. بداية التوجه الجاد نحو الإسلام بدأت بعد حركة يوليو «1976م» الفاشلة ورفع النميري شعار القيادة الرشيدة وطلب من كل قيادات النظام وكل موظفي الخدمة المدنية الكبار كتابة إقرار وتعهد شخصي بالإقلاع عن تعاطي المسكِّرات وطلب ممَّن لا يستطيع الالتزام بهذه التوجهات تقديم استقالته، وفي نفس السنة أعلن إلغاء توتوكورة وهي مراهنات كرة القدم كما ألغى مراهنات سباق الخيل وأدى فريضة الحج وأُعيدت الجامعة الإسلامية في أم درمان تلك الجامعة التي ألغاها الشيوعيون بحقدهم وحولوها إلى مجرد كلية الدراسات العربية ولكن الله خيّب سعيهم فلم ينالوا خيرًا. في عام 1977م بدأ عهد المصالحة الوطنية ففي أبريل من نفس العام تقدم النميري ببرنامج انتخابي للرئاسة رافعًا شعار الإسلام وواعدًا بدفع أطر النظام نحو الإسلام ورأت أحزاب الجبهة الوطنية مصالحة النظام وصدقت الحركة الإسلامية في المصالحة ثم المشاركة، وفي هذه الفترة كونت الحكومة لجنة لتصنيف القانون بما يتفق مع الإسلام، ووفق الشريعة الإسلامية وصار للمجالس الشعبية في الأقاليم حق وضع تشريعات لمنع الخمور وجميع أنواع المسكرات وإغلاق البارات وفعلاً تم المنع في أقاليم دارفور والشرق والشمال. صاحبت هذه الفترة قيام مؤسسات إسلامية فعّالة مثل منظمة الدعوة الإسلامية والمركز الإسلامي الأفريقي «جامعة إفريقيا العالمية» والوكالة الإسلامية للإغاثة وبدأت مرحلة أسلمة الاقتصاد فأنشئ لأول مرة في البلاد بنك فيصل الإسلامي الذي كانت لجهود الأخ علي عبد الله يعقوب بعد الله سبحانه وتعالى الفضل الأوفر بحكم علاقته الوثيقة بسمو الأمير محمد الفيصل وتبعته أربعة بنوك إسلامية واهتم النظام بالمؤسسات القرآنية والخلاوي وسرت روح التديُّن وسط الجيش وشُيِّد مسجد فخم في القيادة العامة يؤمه الضباط والجنود. في عام 1983م كان مجلس الشعب قد أجاز قانون الثراء الحرام وقانون الزكاة وكانت القوانين الإسلامية جاهزة لإجازتها في نوفمبر ولكن في السابع من سبتمبر وقف الرئيس النميري يعلن في ثقة أذهلت العالم أن السودان رجع إلى أصله وأعلنت القرارات الإسلامية بوضوح وحزم وبدأت الدولة في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فور إعلانها ولاقت هذه القرارات تأييدًا شعبيًا منقطع النظير في الداخل والخارج من المسلمين الخلص.