تمكن جنود الاستعمار «الاستخراب» في نهاية القرن قبل الماضي من هزيمة كتائب الأنصار وإطاحة الحكومة الإسلامية التي كانت تحكم البلاد بالشريعة الإسلامية، فقد كان السودان سلمًا للإسلام آنذاك. من أول يوم عكف دهاقنة الاستعمار «الاستخراب» على طمس الوجه الإسلامي للسودان وتبع الغزوالعسكري غزوفكري وثقافي وتشريعي كان أدهى وأمر من الغزوالعسكري لأن هذا النوع من الغزويسري في جسد الأمة سريان الجراثيم في جسد الإنسان دون أن يشعر بها إلى أن يتمكن المرض العضال فيعجز الأطباء عن العلاج. نجح الاستخراب في الخراب وعمل على فصل الدين عن الدولة وإبعاد أي أثر للدين في شؤون الحياة والحكم وحاصر الدين في المساجد والزوايا والتكايا وأنشأ المستخرب الصليبي المؤسسات التعليمية على أساس لا ديني وفصل التعليم المدني عن الديني واهتم بالتعليم المدني الذي يغزو عقول الطلاب بالأفكار اللادينية واستطاع أن يبدل القوانين الإسلامية من مدنية وجنائية الى القوانين الأنجلوسكسونية ومنذ ذاك التاريخ اغترب السودان عن أصله وتطبعت حياته بطابع غير اسلامي في كل المناحي من فكرية وثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية وتربوية. استمر حكم الإنجليز للسودان من 1898م الى نهاية 1955م ونال السودان استقلاله في يناير 1956 م ووضع له خبير بريطاني دستورًا مؤقتًا سُمي بدستور 56 المؤقت مما يدل على أن الاستقلال كان ناقصًا حيث بقيت آثار الاستعمار. عندما لاحت تباشير الاستقلال على الأفق قامت في البلاد جبهة إسلامية عريضة تدعو إلى وضع دستور اسلامي كامل مستمد من الكتاب والسنة لنيل الاستقلال الحقيقي لا الصوري ووضع فقهاء القانون الدستوري الاسلاميون دستورًا كاملاً شاملاً على أساس اسلامي وكونت الحكومة القائمة آنذاك لجنة لوضع دستور دائم للبلاد تضم كل أطياف اللون السياسي وتقدمت الجبهة الإسلامية عبر ممثليها وثيقة الدستور الإسلامي الكامل إلا أن ممثلي الأحزاب التقليدية أحزاب الأمة والوطني الإتحادي والشعب الديمقراطي وبالطبع ممثلي الحزب الشيوعي «الجبهة المعادية للاستعمار» وكل هؤلاء واولئك ممن تربوا تحت كنف الاستعمار» الاستخراب » فخربت عقولهم رفضوا رفضًا باتًا إجازة الاقتراح وبذلك فشلت أول محاولة لوضع دستور اسلامي كامل فانتقم الله منهم وابتلاهم بحكم عسكري حيث انقلب عليهم الفريق عبود وعلى عهد ما كانوا يسمونه بعهد الديمقراطية الأولى. المؤسف أن الذين أسقطوا اقتراح الدستور الإسلامي هم ممثلو الطائفتين الدينيتين ومعهم الحزب الوطني الاتحادي الذي يقوده السيد الأزهري.. أما ممثلو الحزب الشيوعي وأشياعهم فلا حرج فليس بعد الكفر ذنب. استمر حكم العسكر ست سنوات عجاف فارضًا حظرًا لأي نشاط حزبي أوفكري ورافضًا فكرة الدستور الإسلامي حيث حاول الراحل القاضي » أبورنات« وضع دستور طبيعته علماني صرف ولكن الله الذي ينتقم من كل رافض للنهج الإسلامي الخالص أطاحهم في ثورة شعبية رائدة في أكتوبر 1964 وعادت البلاد للديمقراطية. وقد صاحب ثورة أكتوبر قيام جبهة الميثاق الإسلامي ضمت كل القطاعات الإسلامية الملتزمة بالإسلام شرعة ومنهاجًا وجاب قادة الجبهة أنحاء السودان داعين الشعب المسلم إلى الوقوف مع الدستور الإسلامي وعندما أُجريت الانتخابات لجمعية تأسيسية تضع الدستور فازت جبهة الميثاق بسبعة مقاعد فقط وكونت الحكومة الائتلافية من حزبي الأمة والاتحادي لجنة قومية لوضع دستور دائم للبلاد ومثلت جبهة الميثاق الوجوه القانونية هم الدكتور حسن الترابي والأستاذ صادق عبد الله والمغفور له بإذن الله محمد يوسف محمد. كانت خطة الجبهة هي العمل داخل اللجنة لإقناع الأعضاء بالدستور الإسلامي الكامل والعمل وسط الجماهير لتكون هذه الجماهير وسيلة ضغط شعبي على قياداتها الدينية والسياسية التي تتمنع وتتوجس خيفة من دستور اسلامي كامل يسحب البساط من تحتهم اذا وعت الجماهير بحقيقة الإسلام الخالص الصريح. كان الدكتور حسن الترابي الأمين العام لجبهة الميثاق الإسلامي وأستاذ القانون الدستوري ورئيس اللجنة الفنية للجنة الدستور القومية قد وضع أمام هذه اللجنة ثلاثة خيارات لاختيار خيار واحد للجمعية التأسيسية وهذه الخيارات الثلاثة هي:- 1- دستور اسلامي كامل 2- دستور ذو ملامح إسلامية 3- دستور لا ديني يفصل الدين عن الحياة وقد رفض تسمية هذا الخيار بالدستور العلماني حيث إن العلمانية هي اللادينية فيجب أن يوصف باسمه الحقيقي لا باسمه الحركي الخادع. أين يا ترى الدكتور الترابي من هذه الخيارات وهو الذي كافح من أجل الدستور الإسلامي الكامل وكان فارس البيان والكفاح باللسان!!! سقط اقتراح الدستور الإسلامي الكامل بالأغلبية حيث وقف بجانبه أعضاء جبهة الميثاق الثلاثة وأعضاء حزب الأمة الستة بتوجيه صارم من الإمام الشهيد الهادي المهدي ولكن يا للأسف والأسى فقد وقف ضده أعضاء الوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي وبقية الأحزاب اللادينية فكان أن قدم الخيار الثاني للجمعية التأسيسية بعد أن راجعه خبير الدستور المصري المشهور عبد الرزاق السنهوري. أنهت اللجنة القومية أعمالها وقدمت مسودة الدستور ذي الملامح الإسلامية وكان المأمول ان يُجاز الدستور ولكن الخلفيات العلمانية لكثير من نواب الأحزاب حالت دون ذلك وأنفقت اللجنة أحد عشر شهرًا من عمرها في مناقشة مواد الدستور وذلك في ثمانين جلسة وتم الاتفاق على تسع مواد فقط وهي المواد التي لا تلزم بشيء وتم تأجيل 229 مادة الى أن حلت الجمعية تنفيذًا للعبة سياسية لإنقاذ الحكومة من السقوط ولتعطيل إقرار الدستور ذي الملامح الإسلامية وذلك في فبراير 1968.. أجريت انتخابات عامة لجمعية تأسيسية أخرى في أبريل 1968م مهمتها أيضًا وضع دستور دائم للبلاد!! وعادت جبهة الميثاق الإسلامي تحاول مرة أخرى لوضع دستور اسلامي وكان الأستاذ صادق عبد الله قد فاز في دائرة الخرطومجنوب وأصبح زعيمًا للمعارضة حيث لم يحالف د. الترابي الفوز في دائرة المسيد. لم تعمر هذه الجمعية التأسيسية أكثر من عام وهي تحاول وضع الدستور، وللحقيقة والتاريخ أن الشيوعيين والجنوبيين من غير المسلمين لم يكونوا حجر عثرة ولا عقبة في وجه الدستور الإسلامي لأنهم كانوا أقلية حيث كان للشيوعيين مقعدان فقط هما لزعيم الحزب الشيوعي عبد الخالق محجوب والحاج عبد الرحمن الذي اهتدى للإسلام قبل مماته والحمد لله وللجنوبيين من غير المسلمين 35 نائبًا من مجموع ثلاثمائة نائب. انتقم الله المنتقم الجبار من الرافضين للدستور من نواب الأحزاب التقليدية الطائفية حيث انقلب عليهم العسكر وقامت في البلاد حكومة عسكرية طاغية بقيادة الشيوعيين والناصريين وغيرهم من الأحزاب اللادينية التي أقامها مليونيرات اليهود العرب ونصارى الشام لحرب الإسلام.