السوداني ما يميزه أنه يستجيب للإثارة، ويُحكى أن أحد المصريين كان يزامل سودانياً في العمل بجانب تقاسمهما للسكن هناك بالمملكة العربية السعودية، وفي مرة تشاجر المصري مع سعودي في حضرة السوداني.. وتبادلا السُّباب بشكل مفرط، فإذا بصاحبنا السوداني يرسل الضربة القاضية إلى وجه السعودي.. ليصيح على إثرها المصري مغاضباً وهو يقول: «إيه إللي عملتو ده.. مفيش بُق» ويقصد في حقيقة الأمر أن الشجار باللسان وليس بالسنان كما كان يعتقد السوداني!! السوداني يستجيب للإثارة بالفعل.. والقصص في هذا الصدد كثيرة، ومحفوظة عن ظهر قلب ونتندر بها على سبيل الفخر، نعم الفخر، وعبارة «أرشو» محببة إلى النفس لدينا جميعنا وتشعرنا بالذات التي لا تنكسر، وإن أدى ذلك لكسر أعتى أنف على وجه الأرض. لكن.. هل جانبنا الصواب ونحن نستعين بالسنان لحسم كثير من الأمور على حساب اللسان؟ وهل إلغاء اللسان عندنا ينبع من تطبيقنا لقول رسولنا الكريم: «امسك عليك هذا»؟ اللسان بطبيعة الحال يقود صاحبه إن هو سلَّطه على الخلق وأطلقه «يلعلع» صباح مساء يلوك به أعراض الخلق «همازاً مشاءً بنميم»، ولعَّاناً بالفاحش من القول.. يغتب هذا ويسخر من ذاك ويكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً.. لا شك يقود صاحبه أو يكب به على وجهه أو منخره في النار.. واللسان إن تجنب كل هذا وغيره ومضى يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ويحوم بين الناس بما ينفعهم ولا يضرهم.. فلا بد أنه قائد صاحبه إلى نعيم لا يفنى، وجنة عرضها الأرض والسماوات العُلا .. ثم إن ما ينفع الناس يندرج تحته الوعظ والإرشاد، والنصح والتناصح لجهة أن المؤمن مرآة أخيه، والنصح أعظمه نصح العبيد للسادة، والعامة للخاصة، والضعيف للقوي، ولا بأس أن ينصح الشعوب حكامهم طالما أن البيعة معقودة على شرط: «أطعناك إن أطعت الله، وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، والحاكم الفطن، هو بلا شك صاحب الأُذن التي تلتقط أنين الشعب، وإلا فكيف أتعب الخليفة الصديق وأمير المؤمنين أبو بكر الصديق، من جاء بعدهما! وحين يجد الناصح إلى نصحه سبيلاً، بالقول أو بالمنابر المؤثرة التي تعرف بالسلطة الرابعة، فلا بد أن يصدح بالحق، وأن يأمر بالحسنى.. غير منغمس في ضلالة أو داعياً لخروج على سلطان، أو موقظ لفتنة نائمة... وإن كان الأمر كذلك، كان على الملوك السمع والطاعة، وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.. أما السلطان فلا أحد يلومه إن هو أخرس الألسن التي تصدح بالفتنة والضلالة، لكي يحفظ للأمة أمنها واستقرارها، وحتى لا يلوث سمعها بما لا يرضي الله ورسوله.. على أن يراعي أي السلطان عدم الغلو والتطرف في الأخذ بشدة لكل من شذ وحاد، وألا يأخذ أحد بجريرة أحد وفي ظنه أن الشرَّ «يعُم»!! والغلو والتطرف في الأخذ يولد الكبت.. والاستجابة للإثارة تعني أن تتدخل السنان، ويومها نخشى أن نصرخ كما المصري مغاضبين: «إيه إللى عملتو ده.. مفيش بُق»!! وأخيراً أقول: اطلقوا لسان «رأي الشعب» و «ألوان».. فإن من يسترزق من خراجهما أكثر من ثلاثمائة أُسرة .. أخشى أنهم جميعهم سوف لن يمنعهم مانع بعد اليوم من استخدام السنان!!