المتأمل لمعطيات الساحة السودانية على صعيدها السياسي من زاوية الصراع الظاهر والمستتر بين المؤتمر الوطني وخصومه السياسيين على المستويين الداخلي والخارجي، يدرك بشكل تام أن الأول لا يرى خطراً يهدد نظامه في الوقت الحالي، أكثر من تدابير الانتقام التي قد يخطط لها عرَاب الإنقاذ راعي مشروعها الحضاري السابق الدكتور الترابي لإسقاط النظام بأية وسيلة لتصبح المعادلة بعد ذلك: «إن الترابي ذهب بالنظام الذي أتى به».. هذه المعادلة ربما هي ما يسعى له الترابي في راهن الوقت، غير أن الأسئلة الملحة تقول بأية وسيلة؟، وهل نستبعد الانقلاب العسكري، ولماذا؟ وهل تلاشت الولاءات القديمة للترابي داخل المؤسسة العسكرية؟ وهل بإمكان الترابي أن يحدث اختراقاً جديداً في جدار المؤسسة العسكرية؟ ومن هم عناصر الترابي النافذون داخل «الوطني»؟ وما مدى تأثيرهم واستعدادهم لتنفيذ أية مغامرة محتملة؟ وما هي المساحات المتاحة لهم للحصول على المعلومات الخطيرة من داخل بيت الكلاوي التي من شأنها المساهمة بشكل فاعل في إسقاط النظام؟وهل حديث الترابي عن الانقلابات العسكرية واستبعاده لها مجرد تخدير أم توجه حقيقي؟ «فوبيا» الخوف من الترابي في وقت سابق سألت نجل الترابي «عصام» عن سر الهلع والفزع الذي ظل يلازم الحكومة تلقاء والده الذي «كلما عثرت بغلة في العراق» ألقت الحكومة القبض عليه وأودعته كوبر «حبيساً»، حينها لم يتردد عصام الترابي في الإجابة وقال إنهم يدركون تماماً قدرات والده في إسقاط الإنظمة والإتيان بأخرى، وأشار إلى أن والده يستطيع أن يسقط هذا النظام ويأتي بعشرات الأنظمة غيره.. وهذه القناعة التي سيطرت على «نجل» الترابي في لحظة غضب من اعتقال والده هي ذات القناعة التي ظلت تغذي العقلية التي تدير ملف الصراع بين معسكري «المنشية والقصر» منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، ولا يستطيع أحد أن يقول إن المعسكر الأخير يتعاطى مع ملف الصراع بكثير من المغالاة، أو إن أعراض «فوبيا» الخوف من الترابي لدى الطرف الآخر مثل الحمل الكاذب، فهناك كثير من المعطيات وقرائن الأحوال التي تجعل فزع «الوطني» من الترابي موضوعياً إلى حد ما، إذ مازالت للرجل بقايا ولاءات قديمة داخل صف غرمائه في أجهزة الدولة المتعددة أشبه بالخلايا النائمة، الأمر الذي ظل يرفع «ثيرمومتر» الخوف لدى «الوطني» كلما انقلب الترابي على جنبه «الأيمن» أو الأيسر وهو في مضجعه في «عتمة» الليل، خاصة أن تلاميذ الترابي يدركون أكثر من غيرهم مكر الرجل ودهاءه السياسي وقدراته الذهنية التي إذا ما وظفها في أية «مؤامرة» عليهم نجحت بامتياز، لذلك هم وحدهم الذين يعرفون فيم يفكر ولماذا وبأية طريقة. ولعل هذا ما يفسر لنا حالة الرعب المُشار اليها جراء تحركات الترابي واتجاهات تفكيره. ولعل هذا أيضاً ما يجعلنا نجد العذر لتلاميذه الذين مازالوا يتوجسون خيفةً من نظراته الحادة خلف النظارة البيضاء السميكة، وابتسامته الساخرة التي تفعل في قلوب من يعرفون سرها فعل السهام بلا قوس وبلا وتر، ويا لها من ابتسامة ساخرة ساحرة لا يدرك معناها وسرها الغامض إلا حيران الشيخ وحواريوه وتلاميذه الذين كانو قد نذروا أنفسهم لخدمته.. فهل هناك يقين بعد هذا. احتمال الانقلاب صحيح أن الناظر إلى معطيات الواقع ومؤشراته ربما يستبعد عملية الانقلاب العسكري في الوقت الراهن، سواء من الترابي أو غيره خاصة إذا نظرنا إلى الأمر من ناحية عدم قبول المجتمع الدولي له في عصر الديمقراطية، لكن الواقع أيضاً يشير إلى أن القوى الدولية ربما تكون قد أعلنت عن جائزة سرية لمن يسقط نظام الخرطوم، لذلك فإن أي انقلاب قادم في السودان سيكون مرحباً به خاصة في هذا التوقيت الذي تتصاعد فيه الخلافات مع حكومة الجنوب المحاطة بسياج قوي من الرعاية والتعاطف الدوليين، وفي هذا التوقيت الذي يتعقَّد فيه ملف أبيي وتسعى فيه جهات دولية ومحلية لتدويل ملف النيل الأزرق وجنوب كردفان وتسويق تحالف كاودا دولياً.. إذن فإن الذي يفكر الآن في الانقلاب «يراهن» على دعم القوى الكبرى، هذا على المستوى الدولي، أما على المستوى الداخلي فإن الأمر يتوقف على وجود الترابي «الخفي» وتأثيره داخل المؤسسة العسكرية، وهو أمر غير مستبعد، وفي نفس الوقت غير مرجح بدرجات كبيرة. مصير الترابي تعكس كثير من المعطيات بصورة او بأُخرى، أن الدكتور حسن الترابي المعروف بعناده ومكره السياسي وجرأته الاستثنائية، لا يستكين للهزيمة مطلقاً ولا يعترف بقوة خصومه مهما بلغوا من القوة والدهاء.. وهذه الصفات تجعل الترابي يسعى باستمرار لتغيير النظام بأية طريقة، مما قد يقوده إلى مغامرات تفضي به إلى مصير لا يختلف كثيراً عن مصير خليل أو محمود محمد طه، ولم يكن الأمر مستبعداً إذا استدعينا الدعوة السابقة لتكفيره وإقامة حد الردة عليه في غمرة الصراع السياسي بينه وبين التلاميذ، وطلب الحصول على الفتوى إياها، خاصة أن بعض التلاميذ بلغ بهم الحنق ذروة الغضب، وأصبحوا يرون فيه الخطر الماثل وشبح الموت، أو صورة الكواسر التي لا ترحم فريستها.