لماذا يغضب أناس وأقوام.. وتحمرُّ وجوههم.. وتنتفخ أوداجهم.. ويتطاير الشرر من أعينهم.. والشر من ألسنتهم وأفواههم.. لأن مجموعة من الحادبين على الإنقاذ رفعوا مذكرة.. ناصحة.. أو تصحيحية.. أو مذكرة ألف.. أو مذكرة مليونية.. هل هي المذكرة الأولى في سجل الحركة الإسلامية؟ أم لعلها المذكرة الأولى في تاريخ الإسلام؟ وكيف يطالب السيد رئيس لجنة الحسبة بالمجلس الوطني بمحاكمة أو محاسبة الذين أعدُّوها؟ وعلى أي شيء يحاسبهم ويحاكمهم؟ أعلى حدبهم وحياطتهم وحرصهم على الإنقاذ؟ أم على حدبهم وحياطتهم وحرصهم على السودان؟ وبأي ذنب وبأي جرم؟ هل اتهموا معينًا بفساد أو فسوق أو فجور؟ هل خالفوا منهج السلف الصالح في إسداء النصيحة.. والتنبيه على الفساد أو احتمالات الفساد؟ كم من المذكرات رُفعت إلى عمر الفاروق.. فقبلها ولم يحاسب الذين رفعوها ولم يحاكمهم.. ولكنه حاسب عماله وولاته.. ولم يسأل أصحاب المذكرات رغم أنهم سمّوا المتهمين بأسمائهم.. وإحدى هذه المذكرات رفعها شاعر إلى الفاروق جاء فيها وكنا قد أشرنا إليها من قبل أكثر من مرة: أبلغ أمير المؤمنين رسالة ٭٭ فأنت أمين الله في النهي والأمر وانت أمين الله فينا ومن يكن ٭٭ أمينًا لرب العرش يسلم له صدري فلا تدعن أهل الرساتيق والقرى ٭٭ يسيغون مال الله في الأدم الوفر إذا التاجر الهندي جاء بفارة ٭٭ من المسك راحت في مفارقهم تجرى ثم أخذ يعدِّد اسماء المتهمين بالفساد: فذكر منهم الحجاج بن عتيك وجزء بن معاوية وبشر بن المحبوب والنابغين ابنا الحارث بن كلدة وشبل بن معبد والنعمان بن عدي وابن محرش. وقال له الشاعر فقاسمهم نفسي فداؤك إنهم ٭٭ سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر ورجاه ألاّ يدعوه للشهادة: ولا تدعوني للشهادة إنني ٭٭ أغيب ولكن أرى عجب الدهر فلم يسأله عمر ولم يستشهده.. ولم يحاسبه.. ولم يقدمه إلى محاكمة.. ولكنه حاسب عماله وولاته وقاسمهم في كل ماعندهم من الأموال حتى أخذ نعلاً وترك نعلاً.. وبالرغم من ذلك فإن الفارق كبير والبون شاسع بين مذكرة الشاعر التي رُفعت الى عمر الفاروق ومذكرة الحركة الإسلامية التي قُدِّمت إلى البشير وإلى الإنقاذ.. وبالرغم من أن المذكرتين كانتا تهدفان إلى الإصلاح لا إلى الهدم ولا إلى إسقاط النظام إلا أن قضية المذكرة الأولى كانت فقط في الفساد الشخصي.. ولكن مذكرة الحركة الإسلامية كانت لها قضية أخرى.. بل قضايا.. وكلها تتمحور حول الأصل الشرعي الذي قامت لأجله الإنقاذ ولقد سلكت المذكرة طريقًا وسطًا وخاطبت أهل الإنقاذ بغاية الأدب والترفع ولكنها التزمت المصطلح القرآني ولم تأخذ بالمصطلحات العصرية التي غزت السياسة حتى في عقر دار أهل الإسلام حيث أصبحت الديمقراطية بديلاً للشورى.. والقبيلة والشعب بديلا للأمة.. والمواطنة بديلاً للالتزام الديني وهلم جرّا. لقد جاءت المذكرة في غاية التوازن والاعتدال وطالبت بأشياء لايختلف عليها معها حتى الذين طالبتهم بها.. فقد طالبت بتحديد هوية البلاد وإنجاز دستور دائم والإسراع في أسلمة البلاد وتطبيق الشريعة.. «دون تردد أو وجل» ودعت إلى برامج دعوية وتشجيع الفضائل ونشر قيم الطهر والفضيلة. ودعت إلى نشر وتمكين دين الله في الأرض... فهل يعد هذاجريمة تحاسَب وتحاكَم وتعاقَب عليها المذكرة؟ إن كان هذا ما يراه رئيس لجنة الحسبة بالمجلس الوطني فكلنا كتب المذكرة والشعب السوداني كله كتب المذكرة والشعب السوداني كله وقّع على المذكرة وليس قطبي المهدي وحده. واعترضت المذكرة على منهج الشمولية المحروس بالأجهزة الأمنية لأن الأصل الشرعي أن الأجهزة الأمنية ليست في حراسة الأفراد ولا المصالح الضيِّقة ولكنها في حراسة الأصل الشرعي الذي يقوم عليه المجتمع ويقوم عليه البناء الكلي للدولة. وطالبت المذكرة بإنشاء آلية عدلية لمحاربة الفساد، وهذا الطلب جاء على ضوء التراخي الذي يراه الذين أعدوا المذكرة في محاربة الفساد والتصدي له.. وإلا فإن المنهج الإسلامي في محاربة الفساد هو الرقابة اللصيقة واليومية وإعمال منهج الحسبة ورد المظالم.. والعجيب أن رئيس لجنة الحسبة في المجلس الوطني يرى ضعف أداء الدور السلطاني في الحسبة وبالتالي ضعف دور المجتمع تبعًا لذلك!! ولكنه لا يحرِّك ساكنًا.. وفوق ذلك.. بلغت المذكرة غاية من التبصر والشفافية حداً جعلها تطالب بفك الارتباط بين أجهزة المؤتمر الوطني وأجهزة الدولة.. وهو أمر كان لابد أن يكون من أولويات شيخ المحتسبين في السودان. وتحدثت المذكرة عن القضاء وطالبت بالفصل بين السلطات الثلاث المعروفة.. وظن البعض أن معدّي المذكرة لا يفهمون في النظام العدلي السوداني. والسلطات مفصولة فعلاً من الناحية النظرية.. ولكن الأداء العدلي في السودان يحتاج إلى مراجعة وإلى وقفة والنماذج كثيرة جدًا.. والحديث عنها لا يسر أحداً أبداً.. والمذكرة تتحدث عن إيجابيات الإنقاذ في مجالات الاقتصاد والتسليح والقدرات العسكرية.. وإنجازات أخرى أشارت إليها المذكرة.. فهل تحاكَم المذكرة ومعدوها على سردها إنجازات الإنقاذ؟ ولعل الأخ رئيس لجنة الحسبة يعلم تمام العلم أن هناك من يستعد لمحاكمة المذكرة ومعديها لأنهم نسبوا قدراً من الإيجابية في الاقتصاد أو غير الاقتصاد.. إن مثل هذا الأسلوب في التعامل مع الحركات الإصلاحية لا يعدو أن يكون نوعاً من التحريض على النظام ويقيني أنه ليس من بين هؤلاء الذين أعدوا المذكرة من هو أقل حرصاً على الإنقاذ وعلى منهج الإنقاذ الذي بايعها عليه الناس من أول يوم من أهل الإنقاذ أنفسهم.. وأرجو ألا أكون قد ظلمتهم وافتأت عليهم بهذا القول. إن مثل قضية الأقطان التي ظهرت اليوم.. ومثل التصريحات التي بدرت من أمين حسن عمر والتي يستحسن فيها على الحركة الإسلامية بالرغم من أنه من آخر المنضوين والمنضمين تحت لوائها.. دعك من الحديث عن الجهة التي قدم منها.. وليس في ذلك عيب لولا مقولة.. إنك امرؤ فيك جاهلية التي تطل برأسها في سوانح كثيرة ومكررة في عهد الإنقاذ.. يا أهل الأنقاذ.. اقرأوا المذكرة بترو.. وهدوء.. ولا تتحدثوا عن ضعفها وركاكتها. فإن اللص لا يكون ولا يتحول إلى رجل شريف إذا لحن الشرطي أو القاضي في اسمه أو صفته.. مع أن المذكرة قد بلّغت.. ولسان حالها يقول: