عندما يتحدث اللواء عبد الهادي عبد الباسط فعلى المعنيين بقوله أن يستمعوا. ولعلكم تتساءلون الآن من هو هذا الرجل، ذلكم هو الأخ عبد الهادي محمد عبد الباسط الذي نعرفه منذ أن كان «مسؤول المدينةالغربية» في هيكل الحركة الإسلامية السودانية، في ثمانينيات القرن الماضي، كان يمتطي «موتره» ذارعاً منطقة الشجرة والكلاكلات وحتى جبل أولياء مُشرِفاً ومتابعاً لسير العمل الإسلامي في تلك المساحات الشاسعة التي عُرف عنها تخريجها لأصدق وأصلب عناصر الحركة الإسلامية. إن اللواء عبد الهادي هو من رجال السودان والحركة الإسلامية الخُلَّص، ما علق بثوبه الناصع إلا غبار أقدامه التي حفيت في دروب الدفاع عن دولة الإسلام في السودان، وعرفنا عنه الزهد والتجرُّد والصدق، إضافة إلى العزم الماضي و«البطن الغريقة». لقد تم تكليفه لفترة قصيرة قنصلاً بسفارة السودان باليمن وعاد منها مباشرة إلى أصقاع دارفور في تكليف جديد، فما كان إلّا ممتثلاً لتكليفه، قائماً بعبء أمانته كما ظل منذ صباه المبكر. لقد تدرّج عبد الهادي في رتب جهاز الأمن درجة درجة عبر سنوات الإنقاذ العشرين، غاص خلالها في غياهب الأسرار والتصق بالملفات الخفية، ولذلك فالواجب أن يحرص قادة هذه البلاد على الاستماع لقلمه المخلص الواعي المجاهر بالحق، الناطق عن علم وتجربة، المنسكب دائماً في عموده الشيِّق في صحيفة الرأي العام والمسمى «الجَرح والتعديل». وفي الخميس 19 يناير الجاري كتب اللواء عبد الهادي مقالاً عنوانه «الجنوب يشتري طائرات F15 وحكومتنا تشتري المفاوضات» إنّ ما ساقه اللواء عبد الهادي كان يمكن أن يقرأ تحت بند تحليلات المجتهدين سياسياً، ولكن خطورته تكمن في أنه من تحليلات العالِمين المحيطين ببواطن ما يتحدثون عنه، وعلى هذا فعندما يحذر اللواء من الطائرات الحربية المتطورة التي يجري شحنها الآن وتحدد خرط أهدافها، فلا بد من الاستماع بآذان مفتوحة. حين يقول اللواء: «أوقفوا هذا العبث يعني مفاوضات أديس قبل أن تنهال صواريخ كروز وتوماهوك على رأس السودان تماماً كما فعل الحلو ووفود المفاوضات لم تبرح مطار كادوقلي، أوقفوا هذا العبث قبل أن تمنحوا أعداء السودان الوقت الكافي لإنضاج المؤامرة واختيار مكانها وزمانها وفق ما يريدون» اه. ربما يرى البعض نبرة التشاؤم، ودعوة إلى التعاطي الحاسم مع ملفاتنا مع الجنوب في قول اللواء عبد الهادي، والكثيرون ربما يرون في ذلك مجرد خطاب «انتباهي» مبالغ فيه، ولكن دعونا نرى المشهد الماثل وننتبه إلى المؤشرات التي تشير إلى النوايا الشريرة لدولة الجنوب مِن مثل ما حذّر منه الأخ عبد الهادي، فأولاً، لا يخفى أنّ القادة الجنوبيين ظلوا يناصبون السودان عداءً سافراً عبر كل منبر، يتهمون السودان بدعم المتمردين الجنوبيين بصوت عالٍ دون أدنى خجل من كون أنهم وبالواضح يدعمون ويستضيفون المتمردين السودانيين، ويصفون السودان بأنه يحتل أبيي، وأنه يسرق البترول.. وأنه وأنه، في مشهدٍ واضحٍ لعداء مبيّت متوافق عليه في تلك الدولة، عداء مطلوب ومبارك من قبل الغرب وإسرائيل. وهنا، فيا لصدق ما جاء في المقال المذكور حين يقول عبد الباسط :«وعبر هذا التكتيك المعلن والمؤامرات الموثقة ظلت حكومة جنوب السودان وهي تسند ظهرها إلى حائط أمريكا وإسرائيل ظلت تتعامل مع السودان بتعالٍ وعنجهية قلّ نظيرها من دولة ناشئة وصغيرة وكل عوامل فنائها متوافرة داخل أحشائها»اه. نعم إن سلوك حكومة الجنوب يدل على تكبُّر ولا مبالاة ووقاحة منقطعة النظير في عالم السياسة والدبلوماسية، ولكن لنستمع للواء عبد الهادي حين يواصل قائلاً :«ولم يكن هذا الذي تفعله الحركة الشعبية شيئاً غريباً، وإنما الذي يثير الدهشة هو ذلك التردُّد، والتخبُّط، والارتباك، والمسكنة الذليلة التي ظلت تتعامل بها حكومة السودان مع هذه المؤامرة المعلنة، والتي بانت كل أشراطها والتي يسارع الجنوب في تجهيز كل متطلباتها، وقد وصل خبراؤها الأمريكيون والإسرائيليون إلى ساحة انطلاقها.» اه وإذا تخيلنا ما صرح به عبد الباسط إلى إمكان حدوثه وهو أن تتحجج دولة الجنوب بأي حجة وتقصف العمق السوداني فما الذي سيحدث، الصمت العالمي سيكون هو رد الفعل البديهي، والمقدمات تشير إلى النتائج، فالجنوب يستضيف ويحرِّض المتمردين السودانيين، فهل هناك من قال له ولو مجاملة لنا «كده عيب يا سادة؟» والجنوب يحبس مال السودان الخاص بأجر تصدير البترول، فهل ساندتنا أي جهة عالمية أو دولة، لا.. ذلك لم يحدث ولن يحدث، إن دولة الجنوب ستحظى بما تحظى به الدولة اليهودية من حماية وغطاء وصمت دولي، وما أسهل ذلك على المجتمع الدولي، أن يصمت ثم يعقد الاجتماعات ويكوّن اللجان ويرسل بعثات التحقيق، ولن تَغلَب المنظمات الأجنبية التي سُمح لها للأسف بالدخول إلى مناطق التماس مؤخراً لن تغلب في عمل ما برعت فيه دائماً وهو فبركة الأدلة وتلفيق الشهادات الكاذبة لتوفير تعاطف عالمي مع ما قد تقوم به دولة الجنوب. إذن فإنّ الظن أنّ الالتزام بالأعراف والقوانين الدولية سيردع دولة الجنوب عن المباردة بهجوم جوّي أو غيره على السودان تحت أي ذريعة، أو الظن أنّ المجتمع الدولي سيقف إلى جانبنا إن حدث واعتدت علينا دولة الجنوب، كِلا الظنين يعدُّ غفلة وسوء تقدير، تماماً كتلك الغفلة وسوء التقدير اللذَين أديا إلى أن يعيش السودان في وهم أن الجنوبيين سيختارون الوحدة ويفوّتون فرصة تكوين دولة بترولية خاصة بهم. إن مقال اللواء عبد الهادي عبد الباسط هو صرخة تنبيه في وادي جلبة المفاوضات ولغطها، المفاوضات التي ما نال منها السودان إلا الويلات والمآسي، لأنها مفاوضات ملغومة ومطبوخة.