= حين تُنتج بقرة الفلاح لبناً أكثر مما تُنتِجُهُ بقرة الحكومة، فإن ذلك لا يعني أن الفلاَّح ناجِحٌ، بقدر ما يعني في الحقيقة أنَّ «الحكومة» فاشلة، لا أكثر.. وحين تؤمنُ الحكومة أيَّة حكومة بأن بقرة الفلاح أفضلُ إنتاجاً من بقرتها، فإن التصرُّف الحكيم تجاه هذه القناعة لا يكونُ بأن تتنازل الحكومة عن جميع أبقارها للفلاحين، بل التصرُّفُ المسؤولُ والحكيم، والذي يليقُ بحكومةٍ تحترم نفسها، هُو أن تبحث الحكومة عن السبب الذي يجعلُ أبقارها عجافاً كسولة، مع أن حظيرة الحكومة أفخم من جميع حظائر الفلاحين، وأعلاف الحكومة أغنى وأدسم من أعلاف الفلاحين، ولأبقار الحكومة ما لا يتيسَّرُ لأبقار الفلاحين من رعاية طبية ونظافة وبيئة!!.. ولكن حكومتنا ظلَّت تأخُذُ هذه الفرضيَّة غير المدروسة جيِّداً فرضيّة أن بقرة الفلاح أكثر إنتاجاً كما تؤخذُ أيَّة حقيقة قَدَرِيَّة، لا سبيل إلى دحضها ولا حيلة في مواجهتها، فتنتهجُ إزاءها نهجاً كسولاً مجرَّداً من الغَيْرة ومن المسؤولية، تمثَّلَ في التنازُل عن جميع أبقارها لفلاَّحين معظمهم أجانب، تحت شعار «تشجيع الاستثمار».. وهي تنسى أنَّها، وهي تفعلُ ذلك، تتنازلُ عن الكثير من واجباتها كحكومة، لصالح حاكمٍ لا دين لهُ ولا أخلاق ولا قيم، سوى قيمةٍ واحدة تُمثِّلُ كلَّ مُبَرِّراتِ وجودِه، هي قيمةٌ اسمُها: الربح!! المُشكلةُ الحقيقيَّة هي أنّ حكومتُنا تنسى، وهي تنهجُ في سياساتها التحريرية نهجاً لا يليقُ إلاَّ بالمجتمعات الموغلة في الرأسمالية، تنسى أن تأريخ رأس المال في البلد الذي تحكمهُ هو تاريخٌ فقيرٌ سياسيَّاً.. ورأس المال إن لم يؤسَّس على ضوابط سياسيَّة ولا أقول أخلاقيَّة لأنه ليس لرأس المال أخلاق وقيم وطنِيَّة مُتعارَف عليها ومرصودة من قبل مؤسسات مُنشأةٍ خصيصاً لغرض رقابة رأس المال وضبط انحرافاته «الوطنية»، إن لم يؤسس رأس المال على أمثال هذا التاريخ وهذه الضوابط، فإنَّهُ حين تُوكلُ إليه مسؤوليَّة القرار الاقتصادي في بلدٍ ما، يكون من أعظم بوابات اختراق القرار الوطني، ويكونُ، أيضاً، باباً عريضاً من أبواب الفساد وتشجيعه على مختلف مستويات السلطة.. إن مصطلح «الرأسماليَّة الوطنيَّة» لم ينشأ إلا للتعبير عن قيمةٍ محفوظةٍ من قيم المجتمعات الرأسماليَّة، هي القيمةِ الوحيدة التي لا يُمكنُ، في أي مجتمع من مجتمعات المعسكر الرأسمالي، المساومة عليها أو تجاوزها .. ليس مطلوباً من رأس المال، في بريطانيا مثلاً، أو أمريكا، أن يكون شجاعاً، أو أن يكون أميناً، أو أن يكون عادلاً، أو أن يكون وَرِعاً تقيَّاً، أو أن يكون فقيهاً في أبواب الحلال والحرام.. ليس مطلوباً منه التحلِّي بأية صفةٍ أخلاقيَّة أو دينيَّة سوى صفةٍ واحدة: الوطنيَّة!! ولم يأتِ الحرص على هذه القيمة الوحيدة إلا بسبب أن رأس المال هو «الحكومة» الحقيقيَّة، في أيِّ بلدٍ رأسمالي، وأنَّ انحرافهُ وطنيَّاً يعني ضياع البلد ورهن قراره للأجنبي. هذا، ولابُدَّ من ملاحظة أنَّ الحرِّيَّات الاقتصاديَّة المتاحة في بلدان المعسكر الرأسمالي، لا تُتاحُ لرأس المال الأجنبي أو الوافد، إلاَّ بشروط صارمة، أهمُّها الولاءُ السياسي المطلق للبلد الذي يعملُ فيه، ليس ولاءً شفهيَّاً، بل ولاءً خاضعاً لرقابةٍ لصيقةٍ وأمينة، تجعل ُمن أدنى هفوةٍ، مهما اجتُهِدَ في إخفائها، فضيحةً تلهجُ بذكرها مانشيتات الصحافة، وقبل الولاء السياسي، لابُدَّ من معرفتهم، معرفة موقنة، كل ما يتعلق برأس المال الوافد هذا، تاريخه، مصادرهُ، جذوره، والتأكد من أن حائزهُ هو مالكهُ الحقيقي وليس واجهةً لمالك مجهول.. أما رأس المال الوطني عندهُم، فإنَّهُ لا يتم التعامُل معهُ بهذه الصفة ما لم يكُن معروف الجذور والتاريخ، ليست هناك فرصة لمليارديرات «الفجاءة» كما هو الحالُ عندنا، إلا إذا هُم عرفوا مصادر أموالهم، واستوثقوا من نظافتها!! قارن يا شيخ، أرشدك الله إلى الصواب، بين هذا، وبين رأسماليَّةٍ عندنا، يختلف حتّى عوامُّ الناسُ، منذُ ظهورها، على مصادر أموالها وما يزالون مختلفين!! ثم انظُر إلى نتائج «خصخصةٍ» تفتَحُ أبوابها لأموالٍ أجنبيَّة لا نكادُ نعرِفُ حتّى مالكيها الحقيقيِّين «فليس كلُّ من يحمِلُ مالاً، هو بالضرورة مالكهُ الحقيقي!»، ولم نخضعهم لأيَّة ضوابط، لأنَّنا نفتقر إلى هذه الضوابط ابتداءً، حتى مع رأس مالنا الوطني!! وتأمَّل مآلات مشروعاتٍ إستراتيجيَّةٍ نقوم بخصخصتها وبيعها لرأسمالٍ ،أجنبيَّاً كان أو وطنيَّاً، لا نستطيع، ولا نملك، آليات إلزامه بأيَّة قيم أو إستراتيجيات وطنيَّة، ولا نتوفَّرُ، أصلاً، على تقاليد راسخةٍ في هذا الشأن !!«ولا تقل لي، يا مولانا، إن لوزارة الاستثمار ضوابطها وشروطها في شأن المستثمرين الأجانب، لأنها تظلُّ حبراً على ورق، ما لم تتيسَّر أليات الرقابة الصارمة، التي تبلُغ صرامتها ودقَّتها وسرِّيَّتها، في البلدان الرأسمالية الحقَّة، صرامة ودقَّة العمل الاستخباري!!».. كان، وسوف يظلُّ الخيار الأفضل لحكومتنا، أن ترعى أبقارها بمعرفتها، حتّى ولو أنتجت نصف إنتاج أبقار الفلاح، وأن تجتهد، مع ذلك، في معرفة ذلك السرّ الذي يخبِّئهُ عنها الفلاحون، والذي يجعل لأبقارهم إنتاجاً أفضل وأوفر!!!