لأن الحياة كلها.. مسار طويل، ودرب يطول فيه العبور، مذ خلق آدم، عفت فيها الروامس وأقفرت الديار، تاريخ يقعي أمام تواريخ وعصور تنكفئ على بقايا عصور وأخلاط من البشرية تتدافع وتندفع من فوهات الزمن كالبراكين.. وأمم نهضت على أعقاب أخر، وأزمنة تنوء بحمل أزمنة، وأمكنة شحبت بعد بريق وازدهار، وصور تتجلى في عتمة الكون الفسيح. لأن حياة الإنسان من بدء خلقه، تظل في قيمتها الأسمى هي الوصول والكمال في السماء، وتلك هي غاية الأديان وأمشاج الحياة نفسها، التي تجعل من الأرض في سموقها اقتراباً شفيفاً.. من علياء السماء.. هذه الحياة سرها وأنوارها وبيارقها العلوية النورانية التي تكشط كل ظلماء معلقة في هذا النور الذي انبجس في الثاني عشر من ربيع الأول في مكةالمكرمة إيذاناً بمولد الصلة الخاتمة بين السماء والأرض، والدين الذي ارتضاه خالق الكون كله للخلائق حتى يلاقوه يوم حسابه ويقفوا أمام وجهه الكريم. ٭ لم يكن ولن يكون أبداً مولد الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، مجرد حدث مهم وفاصل في حياة المسلمين، يحتفلون به ويحيونه كل عام حتى تقوم الساعة، لكنه في حقيقته أمر أكبر وأجل وأعظم لكل الخلائق، فقد جاء مولد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بإشراقه وبهاء زمانه وسطوع نوره الأبلج بخلاصات خاتمة بأن طريق العالمين أجمع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها قد تحدد وبان، وأن الرسالة الخاتمة هي درب الخلاص الوحيد، فما دونها باطل وما خلاها ليست فيه منجاة لأحد، ولذلك فإن إرهاصات مولده وعلامات ولادته وعجائب إطلالته المباركة لم تكن مجرد أحداث عابرة انشق فيها إيوان كسرى وخمدت نار المجوس ولاحت ملامح بصرى، إنما كانت كل تلك وغيرها إشارات واضحة بأن وجه الدنيا ومعالم الحياة للأحق من بني الإنسان قد بانت معالمه واتضحت وجوهه وانتهت به صلة ورسالات السماء بالأرض إلى يوم الدين، وبهذا تتكامل التعاليم والمفاهيم والشرائع، وأكمل الدين بعد مسيرة طويلة واصطفاف للرسل والأنبياء في حياة البشرية، كان جماع ما جاءوا به هو الذي سيتنزل على هذا المولود الجديد ببكة.. هذا اليتيم الذي أضاء مولده في ساعة من ساعات الظلمة فجاج الأرض وفجواتها وسكونها. ٭ الاحتفال بمولد رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يتجاوز القشور والصور الماثلة ومظاهر الحب الكبير إلى ما هو أعمق من ذلك بكثير، فيقين المتأمل يصله بأن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان ارتقاءً للبشرية جمعاء، ونهاية لتقلبات الوجوه والقلوب الباحثة عن الحقيقة والإيمان الصادق واللواذ إلى كنف المعبود بالحق، وقد كانت الأرواح المطمئنة والمؤمنة تترقبه، وقد أُنذرت وبُشرت به، ودنو مولده كان يطرق شغاف هذه القلوب العازفة كل ذلك، لأن انعطافاً هائلاً لمسار الإنسان قد دنا وبزوغ فجر جديد قد أطل. ٭ كل الانتظارات الطوال، للبشرية قد أهلَّت أنوار مقتطفها وقطافها، قد جاء البشير للدنيا، برحمته المهداة ونعمته المسداة، وعمَّ الكون فيض ألقه وبشراه الجديد. ٭ لم تعد الدنيا، بعده كما كانت، جاء بالعقيدة الصحيحة والايمان بالحق. وكلمة التوحيد، التي أنهت الشرك والثالوث وعبادة الأزلام والأصنام والنار والحجارة والوهم. وجاء بمكارم الأخلاق وسمو الروح وفضائل الخلال والصفح والتسامح والعفو والطهر والعفاف وحسن المعاملة وكريم السجايا.. وجاء بالعدل والإنصاف والمساواة والعطف وسماحة التشريع وكلمة الله العليا التي تعلو فوق هامة كل متجبر ومتكبر، وعدالة الله التي لا يظلم فيها أحد ولا يطغى فيها طاغية ولا يبطش باطش. ٭ مولده كان مولد النور الجديد الذي أضاء الدنيا، فإن سار الناس تحت أضواء هديه لنجوا وتسامحوا وتعايشوا سواسية تحفهم بركات الخير وبركة الحمد، وإن تباغضوا وتباعدوا، فسدت الحياة وتظالموا وتقاتلوا وتقاطعوا وسالت بينهم أنهار الدم بلا نهاية. ٭ للذين يبحثون عن الطمأنينة والأمان وسموق الروح وشموخها، فليتأملوا هذه المعاني الكبار لمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ففيها فقط معالم الطريق.. نعم معالم الطريق!!