بالأمس ذهب الرئيس مبارك فنام السجناء السياسيون ملء جفونهم، فالزنزانة لن يدخل إليها زبانية التعذيب بعصيّهم وسياطهم، ولن تمتد أيادٍ تصفع وجوههم أو تنهال عليهم ركلات في صدورهم، ولن يجلسوا بعد الآن ساعات طويلة أمام المحقّقين يحرمونهم النوم ويحاصرونهم بالسباب والأسئلة التي لا تنتهي، لن يظهر زائر الفجر ليلاً يتسور أسوار المنازل الآمنة ويجر المستهدَفين الأبرياء إلى سيارات الاعتقال ليحتفل بهم الساديون طوال الليل، وسيسير كل مواطن تحاصره عيون الرقابة بسبب رأي صدع به أو بسبب وشاية فاسق.. سيسير مطمئناً ولن يُهتك سرُّه داخل بيته، كذلك لن يُحظر حزب عن نشاطه أو تُمنع ندوة لتيار سياسي ولن تُزوَّر إرادة الناخبين وسيختفي البلطجية بسواطيرهم وعصيّهم، ولن يُحمى أحد بمنصبه أو لانتمائه للحزب الحاكم، وستعود للإعلام الرسمي مصداقيته المسلوبة بعد تدجينه وتعليبه في خطاب النظام، وعندها سيتحدّث عتريس دون حرج ضد من سرق أرضه وعرقه، وسيسأل برعي عن ماله الذي سُلب، سيتحدث عبد المتعال بشجاعة عن ابنه الذي تخطّته الوظيفة وهو مؤهّل لها. وبعد ذلك الرحيل المذلّ لمبارك لن تحول المعابر عن وصول الدواء لغزة المحاصرة ولن تكون هناك حاجة إلى أنفاق بعد الآن، ولن يصبح النظام سمساراً للمصالح الصهيونية، وسيعود لمصر دورها الطليعي في الأمة الإسلامية، فهل تتحقق كل هذه الأمنيات؟ هذا ما نأمله جمعياً؟ هكذا تصوّرت أشواق الشعب المصري بعد إعلان تنحِّي مبارك عن سدة الحكم فسطّرت هذه السطور عشية سقوط الفرعون، فماذا جرى بعد ذلك؟ نزاع مستمر بين الفعاليات السياسية، محاولات محمومة لسرقة الثورة من هنا وهناك، أيادٍ تُشعل أعواد الثقاب في الظلام، خناجر مسمومة تطعن من الظهر، منشورات وخطب تثير الكراهية والشك والتوجُّس، إعلام يضرب طبول الفوضى والخذلان، ونفخ وقود الثورة من جديد التي حققت أهدافها الأولية بذهاب النظام إلى مزبلة التاريخ، إلى إشعال ثورة تطلق رصاصها وسهاماها إلى صدور الشعب المصري الذي كان يحلم بالاستقرار ووفرة الخبز وفرص العمل والعلاج المتيسِّر، صحيح أن للمجلس العسكري أخطاءه لكن الجميع يعلمون أن أبواب الحوار لم تُغلق والمراجعات لم تنته، وأن فترة المجلس مؤقّتة وأن أيًا من أعضائه لن يترشح لرئاسة الجمهورية، وأن محاكمات فلول النظام ستستمر لكن بالمقابل فإن وهج الثورة ودماء الشهداء لا تعني أن سيادة القانون تُنتهك وأن مبدأ الانتقام والشبهات هو الذي ينبغي أن يسود. لقد حقّقت الجماعات الإسلامية ممثلة في الإخوان المسلمين والسلفيين الغَلَبَة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة رغم القهر الذي طالها من النظام البائد سجنًا وتعذيبًا وقتلاً وتشريدًا، فهل تنجح في بلورة أحلام وأشواق الشعب المصري نحو الانعتاق من براثن الهروب من المرجعيات والهُوية وسياسة الظلم ، أم أنها ستسلف نفس نهج الإقصاء والجبروت باسم الحفاظ على الدين والتمكين له والولوغ في التجاوزات تحت الرضا بالصواب؟ أم أنهم سيقدِّمون تجربة مختلفة في التطبيق، تجربة لا تمييع فيها للثوابت الدينية باسم الضرورات، ولا حجر فيها باسم المرجعية، ولا شك أن هذه التيارات الإسلامية مطالبة اليوم بلعب دور فاعل لقطع الطريق أمام قوى التخريب في الساحة المصرية، فإسرائيل تجلس القرفصاء سعيدة بما يجري هناك من فوضى وقتل حتى في ميادين الرياضة، وعلى هذه التيارات الإسلامية أن تُدرك من أي الينابيع يتدفق هذا العنف فهم مؤهَّلون للعب دور إيجابي يُخرج البلاد من هذه الشرنقة الدامية وهذا الظلام الحالك.