زار الخرطوم في الأول من فبراير الجاري ميخائيل بوقدانف نائب وزير الخارجية الروسية والمبعوث الخاص للرئيس الروسي لشؤون الشرق الأوسط، وهي زيارة لها أهمية خاصة وتظهر أهميتها بإرسال موسكو دبلوماسياً عالي المستوى كنائب وزير الخارجية بمعية وفد كبير يضم ممثلين عن كبرى الشركات الروسية ورجال الأعمال ....! وقد ناقش فيها السيد بوقدانف مع الرئيس السوداني إمكانية ضخ استثمارات روسية في قطاعات النفط والطاقة الكهربائية والزراعة وتطوير السكة الحديد، كما اطلع على تطورات الأحداث الأخيرة ونتائج قمة الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا واطلع على الأزمة بين دولتي السودان وجنوب السودان بسبب عدم التوصل لحل لقضية تحديد رسوم عبر النفط بين البلدين ...! إضافة إلى ذلك من المتوقع أن يزور الوفد الروسي برئاسة بوقدانف إقليم دارفور حيث تجري عملية تسوية الأزمة فيه، وجاء في بيان الخارجية الروسية أن جدول الأعمال كان مكرّساً لضرورة بذل جهود مشتركة تهدف إلى تطبيع الوضع في دارفور بشكل تدريجي في إطار الاتفاقات الدولية الموقعة وحل القضايا المثيرة للجدل والقائمة بين السودان ودولة جنوب السودان في مرحلة ما بعد النزاع لتنفيذ بنود اتفاقية السلام ...! الجهود الدبلوماسية الروسية لحل الأزمة السودانية مستمرة في صمت وجدية تجلّت في تفهم الإدارة الروسية للأزمة وقد عقدت موسكو مؤتمر قضايا السودان العلمية والعملية الذي عقد في أكتوبر في العام ألفين وتسعة وقد كان من أميز المؤتمرات التي عقدت في الشأن السوداني، وفوق ذلك لعبت روسيا دوراً أساسياً في إدارة عملية حفظ السلام التي تقودها الأممالمتحدة. وقد أعربت إدارة عمليات حفظ السلام في الأممالمتحدة عن شكرها للمساعدات التي قدمتها روسيا في تحقيق مهمة حفظ السلام ....! الجهد الروسي الذي تبذله الإدارة الروسية والاهتمام بقضايا السودان، يختلف عن تلك التي تبذلها الدول الغربية خاصة الولاياتالمتحدة، والتي تكيل بمكيالين في الأزمة السودانية، ففي حين تفرض واشنطن حصاراً اقتصادياً على السودان وتفرض العقوبات التي يعاني منها الشعب السوداني، تقوم بمد دولة الجنوب بالمساعدات العسكرية والفنية والاقتصادية وقد رفعت العقوبات عن جنوب السودان حتى حين كان جزأً من السودان، أي أن العقوبات كانت مفروضة على أهل السودان في الشمال بينما يتمتع شطر السودان الجنوبي بالدعم الأمريكي السياسي والاقتصادي والعسكري ...! هذا الموقف الأمريكي يقود إلى الشك الذي يقود إلى أطماع الولاياتالمتحدة في كل من دولة جنوب السودان ودولة السودان على السواء، فسياسة الولاياتالمتحدة تقود إلى تقسيم السودان الشمالي إلى دويلات يسهل التحكم فيها، وهذا القول تؤكده المساعدات اللامحدودة التي تقدمها الولاياتالمتحدة لحركات التمرد في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق عبر دولة جنوب السودان، وقد فرضت الولاياتالمتحدة اتفاقية السلام وضغطت على السودان للتوقيع عليها، وقد أعطت وعوداً للسودان تم نقضها، بل وأكثر من ذلك، وأن التوتر بعد الاتفاقية ينذر بنشوب حرب أوسع من تلك التي تم إيقافها، حرب بين دولتين تشير الشواهد إلى تحولها لحرب إقليمية تهدد الأمن في كل المنطقة، فالسودان ودولة جنوب السودان تجاوران تسع دول من أكثر مناطق إفريقيا اشتعالاً، وهي غرب إفريقيا ومنطقة البحيرات والقرن الإفريقي، وتلك مناطق تقع في بؤرة الاهتمام الأمريكي، فالسيطرة على غرب إفريقيا بما في ذلك دارفور تعني السيطرة على موارد البترول واليورانيوم والموارد الطبيعية الأخرى، كما أن السيطرة على منطقة البحيرات تعني السيطرة على مصادر المياه و المنطقة تعتبر من أغنى مناطق العالم مائياً ودخول منطقة البحيرات في تجارة المياه يرفع حجم هذه التجارة من ثمانمائة مليار دولار إلى ثلاثة تريليونات دولار، هذا بالإضافة إلى أن السيطرة على القرن الإفريقي يعطي الولاياتالمتحدة القدرة على السيطرة على البحر الأحمر، وهو الممر الإستراتيجي الأهم في العالم حيث تمر بالبحر الأحمر يومياً أكثر من سبعة عشر مليون برميل هذا بالإضافة إلى التجارة بين أوربا وآسيا وإفريقيا، هذا بالإضافة لصلاحية البحر الأحمر لبناء قواعد عسكرية على امتداد شاطئيه وخاصة الشاطئ الغربي..! خطورة اتفاقية السلام التي فُرضت على السودان أنها لن تقتصر على تقسيم السودان لدولتين متنافرتين، إنما النموذج السوداني سيطبق مع دول إفريقية أخرى حتى يتسنى للولايات المتحدة تقسيم إفريقيا سياسياً وجغرافياً كما تبيِّن الخرائط التي بدأت تظهر في الصحف الأمريكية ....! التدخل الروسي في الأزمة السودانية لم يأتِ من أطماع كما تظهر طبيعة ونوايا تدخل الولاياتالمتحدة، فالولاياتالمتحدة لم تقم بإنشاء مشروع اقتصادي في أي بلد إفريقي يعود بالمنفعة لذلك البلد، مساعدات أمريكا لمصر تقدّر بثلاثة مليارات دولار سنوياً، وهي مساعدات للقوات المسلحة المصرية وتهدد دوماً بقطعها، والوجود الأمريكي في إفريقيا وجود عسكري وليس اقتصادياً ويتمثل في قوات أفريكوم التي تنفق عليها الولاياتالمتحدة وتقوم بتدريبها ..! وبالمقارنة مع التعاون الروسي الاقتصادي نجده يهتم بالنفط والطاقة الكهربائية والزراعة والنقل ممثلاً في السكة الحديد وتطويرها. فروسيا من الدول المتقدمة في مجال النفط والطاقة والزراعة والنقل، وفي مجال الطاقة الكهربية المائية فقد كان تصميم خزان مروي روسياً، كما أنها في مجال النفط تنتج يومياً مليوني طن إلى جانب أنها أكبر منتج للغاز حيث تمد أوربا بثلث استهلاكها من الغاز، أما من السكة الحديد فعمر تلك الصناعة في روسيا يفوق المائتي عام أي أنها تمتلك خبرة في هذا المجال تفوق الكثير من دول العالم ...! والوفد الروسي عالي المستوى الذي يزور السودان هذه الأيام اأتى وفي جعبته الكثير من المشاريع الاقتصادية التي تعود للشعبين بالمنفعة المتبادلة، وتقوية العلاقات الاقتصادية بين السودان وروسيا تعطي السودان قوة اقتصادية وسياسية، الأمر الذي يجعل من السودان دولة رائدة في المنطقة وهذا إضافةً إلى التأثير الثقافي للسودان في المنطقة لموقعه الإستراتيجي الذي يطلُّ على غرب إفريقيا ومنطقة البحيرات والقرن الإفريقي ...! ونجاح التعاون الروسي السوداني يعني فتح الباب واسعاً للتعاون مع المناطق التي ذكرت، فالتواصل بين هذه المناطق سيتم عبر السودان وعن طريق السكة الحديد التي يمكن أن تدخل من السودان إلى غرب إفريقيا ومنطقة البحيرات والقرن الإفريقي، الأمر الذي يعني أن خارطة اقتصادية عالية ستفرض نفسها.!