اصدرت وزارة الشؤون الاجتماعية في عام 1976 م مؤلفًا ضخمًا عن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في مجتمع الأنقسنا وذكرت فيه الكثير من التقاليد والطقوس التي أتمنى أن يعتمد بقية مجتمع السودان بعضها .. فمثلاً عند الأنقسنا تحتل المرأة مكانة رفيعة جدًا لدرجة أنها تطلب من زوجها الزواج عليها كي تساعدها ضراتها على العمل بل تقوم هي بتوزيع الأعباء عليهنّ سيما وأن العمل يدوي ويحتاج إلى مجهود.. أما إذا تقدم شاب لخطبة فتاة فعليه أن يقوم بخدمة خطيبته وأسرتها في الزراعة والرعي والبناء بل وفي كل شيء على مدارفترة الخطوبة طالت أم قصرت وقد تصل لسنوات وتسمى هذه الفترة «الخدمة» وهي لعمر أبيك أرفع أنواع الخدمة الوطنية وفيها امتحان للرجل في تحمّل مسؤولياته وأمانته وإخلاصه والناس يعوِّلون كثيرًا على هذه الفترة لدرجة أن الخطيب إذا تقاعس يومًا عن العمل فيجب عليه دفع غرامة قبل الزفاف يحددها «مجلس الكبار».. يعني مثل مخالفات المرور التي ترصدها كاميرات المراقبة إذ يجب عليك دفعها عند الترخيص نقدًا... فإذا تمادى الخطيب في التراخي سيفسخ المجلس خطوبته فورًا بذريعة أن هذا الرجل خامل ومتراخٍ وزول ماسورة ساكت!! أما المهر فيجب ألا يقل عن مهر أم العروس إطلاقًا ودي كويسة شديد لو كانت عندنا في الشمال لأنني أعرف أن بعض الأمهات تزوجن بمهر متواضع جدًا وليس مثل مهر اليوم الذي يأتي محمولاً على الدفارات والبكاسي وهو مكون من مواد تموينية تكفي لإعاشة ولاية كاملة زائدًا العطور التي لو فاحت لغيّرت الطقس ما بين مدار السرطان وخط الاستواء حيث نحن يا جماعة إضافة إلى رُزم المال التي تئن من فوقها «لساتك الربط» من شدة الحزم لا من شدة الحزم ولا أدري هل سيوقع العريس على عقد زواج أم عقد مبايعة أم توكيل بالرهن والبيع وتحويل الملكية والمقايضة إن دعت الحالة!!! أما عند الموت في بلاد الأنقسنا فنجد أن ذوي المريض نساء ورجالاً يجلسون حوله فإذا وصل إلى مرحلة الاحتضار خرج الرجال وتركوا النساء لوحدهن وبعد خروج الروح تعلن النساء الوفاة فيبدأ الرجال خارج الغرفة بالعويل حاملين حرابهم وهم يلعنون الموت لأنه «جبان» حيث يأخذ الأرواح خلسة ولا يواجه فرسان القبيلة.. النساء جوار الجثة يقمن بحلاقة رأس الميت ودهن سائر الجسم بالزيت ثم يكفنون المرحوم بثوب من الدمور ويلفونه في برش ثم يأخذنه إلى المقابر.. هنلك يُحضر أبناء الميت ثورًا منيعًا ثم يتقدم أحد أبناء الميت ويخاطب الجثمان: إن الله قد احتاج إليك وأخذك وهذا الثور هو نصيبك من الأبقار وأرجو ألا تعود مرة أخرى وتطالب بالزيادة .. بعد المخاطبة يُطلق الثور فيجري ويركض خلفه الناس يطعنونه بحرابهم وعندما يقع يتقاسمون لحمه ويتركون الرجل الخلفية والرأس لأسرة المتوفى، بعد ذلك يرجع الناس للدفن فيضعون الميت في حفرة عميقة ومعه كيس تمباك وحربته وجرابه الذي كان يحمله طوال حياته.. عند جلوس الناس لتلقي العزاء يأتي أحدهم ويطوف بمنزل الميت باكيًا ثم يسأل مستنكرًا «كيف يسافر الميت دون مشاورتنا؟؟» ويخرخ كيس تمباك ليستنشقه ثم يمده لابن الميت على سبيل المجاملة... مجتمع الأنقسنا مسالم جدًا ويمارس التعايش السلمي في كل مناشطه فقد تجد في البيت الواحد الوثني والمسيحي والإسلامي دون أي حساسيات أي أنهم يتعاملون بسياسة لكم دينكم ولي دين. أضف إلى ذلك أنهم يحتقرون السرقة جدًًا ويعتبرونها أفدح من القتل فإذا سرق أحدهم ألّبوا عليه بنات القرية بالهجاء والتقريع حتى يترك القرية.. يبدو لي أن مجتمع الأنقسنا قد ورث كثيرًا من التقاليد المروية مثل دفن الميت بأغراضه وتقديم القرابين وتعايش الأديان زيادة على إيمانهم بأن المتوفى قد رحل إلى دار أخرى لا يعلمون عنها شيئًا وقديمًا قال أحد الشعراء العرب: الموت باب لنا لا بد ندخله فليت شعري بعد الباب ما الدار لو كنت أعلم من يدري فيخبرني أجنة الخلد مأوانا أم النار