بعد أيام قلائل، بالتحديد يوم السبت القادم 26 يناير 2019، تحل الذكرى ال(134) على يوم فريد في تاريخ السودان، عندما دخل الجيش السوداني تحت قيادة الإمام محمد أحمد المهدي إلى الخرطوم عنوة واقتداراً، وأعلن نهاية الحكم الأجنبي وتدشين الدولة السودانية. كتبتُ هنا مراراً ومنذ سنواتٍ، أقترح أن يكون هذا اليوم (26 يناير) العيد الوطني للدولة السودانية.. مع احتفاظ يوم الفاتح من يناير برمزية جلاء جيوش الاستعمار.. والفرق بين الاثنين أنَّ اليوم الوطني هو العيد الذي تحتفل به الأمة السودانية كلها، بينما ذكرى الجلاء تظل احتفاءً بروتوكولياً محصوراً على الجانب الرسمي.. ولا أقصدُ بهذا المقترح أن أعلو بمناسبة فوق أخرى.. ولا تقليلاً من شأن مناسبة غنى لها السودانيون (اليوم نرفع راية استقلالنا..)، لكن إعادة قراءة للتاريخ بوجهة نظر وطنية... فالدولة التي سطعتْ في العالم صباح 26 يناير 1885 استمرت لمدة (13) عاماً ثم عادت نفس الجيوش مرة أخرى لتحتل السودان.. لكن ال(58) عاماً التي قضاها الاستعمار في البلاد لم تكن إلاَّ فاصلاً في تاريخ الدولة السودانية تلك.. بعبارة أخرى أنَّ استقلال السودان الحقيقي تحقق في 26 يناير 1885 ولكن سيادة الدولة السودانية فقدت في يوم الجمعة 2 سبتمبر 1898 في موقعة كرري.. لم تسقطْ حينها الدولة السودانية بل تغيرتْ الإدارة لتصبح دولتي الحكم الثنائي هما المهيمنتان على إدارة البلاد.. حتى لحظة استعادة السيادة مرة أخرى في الفاتح من يناير 1956.. هو فاصل انقطاع لا انتهاء للدولة السودانية التي ولدتْ بكل جسارة في 26 يناير 1885 بعد مخاضٍ عسير من سلسلة معارك أسطورية بدأت من الجزيرة أبا وتنقلت عبر البلاد.. لم يحقق التفوق العسكري للمستعمر نصراً ولا كسراً لعزة السودانيين حتى أجهزوا عليه في الخرطوم وهزموا أقوى دولة في ذياك الزمان.. الدولة السودانية الحديثة وُلدت حقيقة في 26 يناير 1885، فاحتفالنا بيوم الفاتح من يناير يمسحُ هذا المعنى.. وبدلاً من أن نكون دولة عمرها الآن (134) عاماً نفقد قرابة نصف عمرنا الوطني ونستبدلها ب(63) عاماً فقط هي عمر السودان ما بعد 1956.. وفي تقديري؛ مثل هذه الحسابات الخاطئة تجحفُ في حق دولتنا السودانية كثيراً، وتؤثر على منسوب العزة الوطنية لدى السودانيين.. صحيح أنَّ الاستعمار خلال سنوات إدارته للبلاد أعاد هيكلة البلاد بصورة كبيرة ويكاد يمسح تماماً القوام السابق للدولة السودانية، لكن الأصح، أنَّ المعادلة التي ارتكز عليها الاستعمار في إدارة البلاد، كانت دائماً تستوحي ما حدث في 26 يناير 1885.. مثلاً؛ كلية غردون التذكارية والتي تحولت إلى جامعة الخرطوم الآن، وهي أحد أكبر مفاخر البريطانيين في حكم السودان,. لولا أنَّ الجنرال غردون سقط في عتبات القصر الجمهوري صباح فتحها، ربما لما كان هناك ما يستوجب تخليد ذكراه.. ثم أنَّ التقسيم والنهج الإداري للاستعمار ارتكز على إعادة بناء المجتمع السوداني بأسس تقاوم الأسباب والروح التي كانت وقود الثورة المهدية.. بل وبدلاً من نهج الاستكبار وكسر الهمة الوطنية سعت بريطانيا لاستمالة الروح السودانية بمزيد من الانفتاح والشراكة الحقيقية.. فاهتم الاستعمار بالتعليم في مختلف مستوياته لبناء جيل من السودانيين قادرين على النهوض بأعباء إدارة الدولة، الشراكة لا الإخصاء (الكلمة مقصودة الإخصاء وليس الإقصاء).. إذا كان الاستعمار نفسه عدَّ مكوثه في السودان (فترة انتقالية).. فكيف نعده نحن فترة انقطاع ونبدأ حسابنا الوطني من يناير 1956؟؟؟؟؟؟ السودان نالَ استقلاله عنوة واقتداراً في 26 يناير 1885.. بينما يناير 1956 هو ذكرى جلاء جيوش الاستعمار.. يجب أن نحتفل باليوم الوطني في 26 يناير.. التيار